الخميس، 1 أغسطس 2019

الحرية والعشق بين يدي"سيدات القمر"


في شهر مايو الماضي أعلن فوز الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر,عن روايتها"سيدات القمر"بعد أن ترجمتها الأمريكية مارلين بوث تحت عنون"أجرام  سماوية",لتصبح أول كاتبة عربية تحصل عليها,ملفتة أنظار العالم,لوجود مواهب عربية شابة تسعي لإبراز نفسها علي خريطة الأدب العالمي,حتي وإن كانت عن المراكز الثقافية العريقة في المنطقة.
في البداية أهنئ من كل قلبي هذه الأديبة عن فوزها المستحق تهنئة صادقة,بعيداً عن كل هذا الجدل العقيم حول أمور جانبية؛لإفساد بهجة إزدهار بقايا الأمل وسط انهيار مرعب للثقافة العربية ككل وعجزها عن عن مسايرة العالم,الذي ينطلق في اتجاه المستقبل ونتقهقر نحن لنغرق في العتمة القاتلة,وأشد علي يدها وانتظر منها أعمالاً أخري لتساهم في محاولة ترميم جدار الثقافة العربية الذي يكاد ينقض فوق رؤوسنا و لا يجد من يقيمه!
في عام2010نشرت جوخة روايتها"سيدات القمر"راصدة التحولات الاجتماعية,في قرية العوافي كنموذج مصغر لما مرت به عمان من أواخر القرن التاسع عشر,إلي بدايات الألفية الجديدة,ومع كل شخصية ظهرت نري أثر التغيرات الكبري للمجتمعات في تفاصيل حياة الفرد العادي,بدءً من عدم قدرة المرأة من الصراخ أثناء الولادة إلي تحرر العبيد بحكم القانون,وسعي الجميع رجالاً ونساء أحراراً ومستعبدين نحو آفاق الحرية برحابتها,التي تحتل محوراً هاماً في هذا العمل,وقد اعتبرتها الكاتبة العامل الأول في إبداعها"بلا حرية لن أكتب كلمة".
رسمت صورة صادقة للحياة العمانية وغاصت في أزماتها بعيون فاحصة تفتش عن الماضي,فجعلت من التاريخ قصة حية حين جدلت من حياة الأجيال الثلاثة في عائلة التاجر سليمان وعائلة عزان أنشودة عن الفقد والحب والحرية والرغبة في الانعتاق,متتبعة حياة سليمان  نخاس العبيد وقسوته,ثم ابنه عبد الله الذي عاش حياة بين الحرية والاستعباد ثم ابنه سالم وابنته لندن, صاحبة الاسم الغريب الذي أطلقته عليها أمها ميا,ذكري حبيبها المفقود الذي عاد من لندن ولم يعرف بحبها له,لتغدو ماثلة أمامها بصورة ابنتها,وباسم يردد صدي حبها الضائع,ومنطلقة من حياة الأخوات الثلاثة أبناء عزان وسالمة"ميا,أسما,خولة.
علي الرغم من قصر هذه الرواية-223صفحة- إلا أن لغتها المكثفة وجملها الموجزة الخالية من أي فائض لفظي,جاءت عامرة بمعاني لامست القلب الإنساني فتملكت القلب والعقل بصور كما صرحت رئيسة لجنة تحكيم المان بوكر,ومن أجمل المعاني التي ترق لها النفوس وتهفو لها الأحلام"الحرية",التي تعتبر الأزمة الحقيقية للشخصيات وتتجلي أوضح ما يكون في أسرة ظريفة عبدة سليمان وزوجها حبيب وابنها سنجر,صيحة"نحن أحرار أحرار"الميراث الوحيد الذي ورثه سنجر عن أبيه الهارب,ليعود إلي موطنه المفقود بعد أن خطف منه ليباع من سيد إلي سيد وتفرقت أسرته بطريقة مؤلمة"قبل أن يهرب قال لظريفة أن الأغاني هي الشئ الوحيد الذي ظال عالقاً بذاكرته من لغته",رغم سطوة التاجر سليمان لم يمنع اتقاد هذه الشعلة المقدسة نحو التحرر في صدر الوالد والولد,حاول كبتها في ولده فجاءت النتيجة علي لسان زوجة عمه"تربية أبوك المتسلط لك سحقت شخصيتك",نجد عبد الله يشعر أنه يتحول إلي صورة من أبيه,كأن الجينات تأبي إلا الاستعلان مهما تبدلت الأحوال,ويتماهي مع صورة أبيه, لما تأخر ابنه خارج المنزل وقد فعلها هو من قبل,مواجهاً أبيه النخاس"ولد فطوم...ولد فطوم..تكبر علي أنا..تخالفني أنا؟..ولد فطوم".
زمجر بكلام كثير,لكني قد فقدت الوعي حين هوت إحدي لكماته علي مكان ما في رأسي.تركني نازفاً عند الباب وحين أفقت كنت أسمع بكاء ظريفة ولا أراها.
صرخت:"أنا لم أعد ولداً,وسأخرج لأسهر مثل كل الشباب".
لكن صوتي كان أضعف من أن يسمع.
أكان علي خمسة وعشرين سنة أن تمر حتي أصرخ في سالم"سهران للآن؟... تخالفني أنا؟...؟
كان قد عاد في الثانية صباحاً وخيل إلي أنه سكران,أردت أن أصرخ في وجهه أكثر,لكني لم أتعرف الصوت الذي خرج مني.
لم يكن صوتي.
كان صوت أبي في عتمة باب بيته يلكم وجهي ورأسي.
تعود قضية وراثة سمات الأسلاف بوجهها الوضاح,مع الشيخ مسعود وحفيدته أسماء"كان ولداً ذكياً شغوفاُ بالعلم,حاول الالتحاق بالمدرسة السعيدية في مسقط وهو فتي,ثم رأي أبوه أن الحياة في مسقط خطرة علي سليل قبيلة مثله,تعلم الولد علي أيدي المشايخ وأئمة المساجد متنقلاُ بين المراكز العلمية آنذاك في نزوي والرستاق,ولكنه لم ينس حلمه القديم في المدارس العصرية.
حين كبر حاول مع آخرين أن يؤسس مدرسة جديدة عصرية في مدينة ساحلية مفتوحة,اختاروا مدينة صور,وبدأوا بالتخطيط والتجهيز للمدرسة,وضعوا أساس البنيان,لكن أوامر عليا صدرت لهم بالتوقف.في الأربعينيات كانت السلطة مذعورة من فكرة تعليم العمانيين,قال أحد المسؤولين الكبار, لحليفة الإنجليزي"هل نعلم العمانيين كما علمتم الهنود الحمر فثاروا عليكم,وعما قريب سيطردونكم"هكذا أجهض مشروع المدرسة في صور وعاد مسعود لكتبه المجلوبة من مصر والشام.
سالمة وهي تحكي لأسماء عن جدها,لم تعرف كيف تبرر دأب والدها علي التعلم,ولكن أسماء,التي أحست إحساسه نفسه,همست لأمها"التوق المحرق للعلم"فهذا التوق أحرقها كما أحرق جدها من قبل,رغم عشرات السنوات بينهما".
هنا عماد شخصية أسماء,فأبرز مافيها حبها للقراءة وشغفها بعالم الكتب,وهي كتب من التراث لم تجد سواها!"فهي لم تر مكتبات أخري في حياتها",ومع ذكر قضية التعليم ,يتهيج في داخلي الجرح الغائر في عقلي ووجداني مصر بعد أن خبرته وأدركت مدي قدرته علي ذبح العقول وتشويه الشخصيات,في الرواية كان المدرس المنوط به تعليم الأولاد من جيل عبد الله مصرياً,صحيح أنه لم يكن علي المستوي المطلوب هو أيضاً-كأنه إشارة للحاضر المرير-لكن لا يمكن الإنكار أن مصر كانت ملكة محيطها العربي وصاحبة ثروات بشرية جمة في مجال التعليم,قبل تجفف منابعها الفكرية والعلمية وإحلال مكانها برك آسنة يفوح منها الجهل والتفاهة...ولا حرية بغير تعليم,كما فعلت الهند.
عنوان الرواية يحيل في ذهني إلي قصيدة هايكو للشاعر الياباني باشو:
شيئان يسرقهما القمر
الضوء من سيقان الأشجار
ويوم من حياتي
ترتبط المرأة بالقمر منذ العصور الأمومية المبكرة في تاريخ البشرية,عندما كانت إيزيس وعشتار وإنانا سيدات الكون المتحكمات في الملكوت,القمر هو الزمن الذي يتشظي في السرد كفتات ينتظر إتمام القارئ للنص,ليخلقه من جديد في وعية,حينها تنه صورة الحب رهيفة المثال,مثقلة بأكداس من مر الواقع.
"ميا التي استغرقت ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة,استغرقت في العشق"من السطر الأول تلتمع كلمة العشق السحرية,"عشق صامت لكنه يهز بدنها النحيف كل ليلة في موجات من البكاء والتنهد"عشق الضني لا يخلف سوي الأحزان,إرهاص ينذر بتهاوي أحلام العشاق.وحدها أسماء مع زوجها خالد استطاعا العبور إلي مرفأ الزواج المستقر.
ميا لم تحب في حياتها سوي علي  بن خلف غير الشاعر بإحساسها نحوه,خوة انتظرت ابن عمها سنوات حين رحل لكندا وبعد زواجها منه وتكوين أسرة تركته راحلة عنه بسبب أشباح من بلاد هجرة زوجها,فكان حبها بين رحيلين.
نجية وعزان حبهما وفراقهما حكاية من عالم الواقعية السحرية,موشاة بأشعار عربية عن الحب في صورته البكر,عشقهما موصول لا ينفصم,ليس إلا السحر والنجوم ما يقطعه,وأعتقد أن عنوان"أجرام سماوية" في ترجمة مارلين بوث كان في وعيها وهي تصكه,هذا المعني الرابط بين العشق والأفلاك.
جوخة الحارثي...ألف مبروك!
محمود قدري




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق