الجمعة، 18 سبتمبر 2020

عصر الهيباكوشا الجديد

 

عصر الهيباكوشا الجديد

معلق في الفراغ لا يدري إن كان حياً أم عبر الجدار الفاصل بين المرئي و المتواري وتاه في ظلمات اللاعودة,بذلة الفضاء ما زالت تضخ الأكسجين لكن الهمود والنبض المنخفض يشيران أنها ربما تكون آخر الأنفاس,ورغم أنه لم يعد واعياً لأي شئ عبرت مخيلته صورة قديمة مضي عليها آلاف السنين يسمونها الرجل الفيتروفي يشعر أنه في نفس وضعه الآن,فتح عينيه بصعوبة بالغة,كأنه يزيح جبل من علي أجفانه التي أصبحت طيات وطيات لا تحتملها أعصابه,انجلت العتمة وبدأ النور يغزو عينيه.

في البدء ظن أنه يحلم,لكنه سرعان ما أدرك اليقظة الواعية,عندما أصابته وخزات الألم في صدره بتداعي الذكريات ورؤية وجهها الجميل الباكي يتضرع له أنه يعود سالماً وهو يخطو نحو المكوك الأخير علي الأرض,ليسوح في المجرات يستجدي الآخرين مساعدة أهل الأرض.

من أين تشع كل هذه الأنوار؟!الضوء يغمره كما غمره ظلام وماء الرحم كل ما حوله مضئ كأنه يغتسل من الأدران المتشبثة به أينما ذهب,إن كان هذا هو النور فبالتأكيد الشمس-التي يحكون عنها فيما مضي أنها كانت تضئ السماء-ليست سوي شمعة واهنة تلقي بأشعتها علي الأرض.

مد بصره ناحية الجالسين,لم يستطع التمييز إن كانوا ذكوراً أم إناثاً,شباباً أو شيوخاً,بشراً أم مسوخاً,هم كل شئ ولا شئ,يتصدرهم عملاق يجلس علي قمة هرم يدور من تحته بينما هو في ثباته غيره عابئ بالدوران أو السكون,قرر أن يغمض عينيه فالرؤي تثير الجنون والرغبة في المستحيلة في الخلاص.

سأله أحد الجالسين بصوت فخيم لكن بلغة عجيبة ومع ذلك فهمها بسهولة:

-كيف كانت رحلتك أيها الغريب؟

خرج صوته مخذولاً في ضعة من لا يجد تحته أرض ولا فوقه سماء:

-قاسية...قاسية ومخيفة!

رد صوت آخر بنبرة يشوبها العطف جعلته يفتح عينيه من جديد:

-لكنك كنت قادراً عليها.

تتبع مصدر الصوت وأخذ يدقق جيداً ولا يدري هل كان حقاً نسراً برأس ثور أم أنه الوهم يعبث بخيالاته,دمدم في ضعف:

-جئت طالباً العون تبعاً للعهد القديم,إن ذبذبات موجاتكم وصلت إلينا من مائة عام قبل الكارثة والرسالة كانت"عالم واحد وكيان واحد,نرحب بكم",إن الأرض تموج اليوم بالشر,البشر يأكلون بعضهم في كل مكان,الناس جوعي,الدم فاض والمياه جفت,إن الأرض في حاجة إلي السلام.

تكلم العملاق فجاء صوته مهيباً مخيفاً به هدير الرعد:

-وهل نحن المنوط بنا زرع السلام وسط الشوك والدمار؟

مرت لحظة صمت وأكمل:

-إنكم وقحون لدرجة تذهلني أحياناً وأنا محيط بكل حي في مجرتي,يقتل المرء منكم أخيه ويسلب دار جاره وينام ملء جفنيه,ثم يدعي المظلومية ويهرول طالباً السلام.

تدخل الصوت العطوف وقال:

-سيدي أرسلني معه لأري وأحكم إن كانوا يستحقون.

-لن تحتملهم يا أونشو,إن البشر لا يمكن احتمالهم علي الإطلاق.

-لن يضيرني أن أنتظر معهم أياماً بحسابهم ثم أبلغك وضعهم والحكم في بيدك في النهاية.

تريث العملاق قبل أن يجيب:

-احذرهم فأنت ستهبط كواحد منهم وسيجري عليك ما يجري عليهم,وستكون مسئول عن نفسك متروكاً لمصيرك...وصدقني إنهم قتلة ومجرمون.

تجرأ البشري وقد تمسك بأهداب الآمال:

-ومنا الصالحون والطيبون.

-نقطة من محيط!

جلجل صوت العملاق في غضب فغاص قلبه في صدره وأمسك عن الكلام.

تقدم أونشو نحو نبيل وأمسكه لينتقل معه إلي الأرض,في رمشة عين وجد نبيه نفسه أمام رجل وسيم القسمات وجيه المنظر يصلح أن يكون نجماً في السينما التي اندثرت مع ما اندثر من النسيج الذي حاكه البشر منذ قرون طويلة,تطلع أونشو حوله,فابتلعه الدخان والضجيج,الفساد في كل مكان القتل لم يعد جريمة وجدوا له مبررات عديدة وهاهي الجثث يتنافس عليها الناس الجوعي والكلاب المتوحشة نظر لنبيل في حيرة:

-هل خاطرت بنفسك وحيداً في الفضاء لتنقذ هؤلاء؟

-أجل.

-إن من يصل لهذا الدرك لا يسمو بعد ذلك أبداً.

-في شبه جزيرة سيناء بمصر,يعتصم القلة الباقية التي لم تتخل عن إنسانيتها,صحيح إنها تعاني نفس ما يعانيه الجميع لكنها ما زالت خاضعة للقوانين,العنصر السماوي فيها لم يتلاش بعد.

أمسك أونشو بيديه وانتقلا في نفس اللحظة إلي مصر,وقفا أمام بوابة حديدية ضخمة علاها الصدأ وتآكلت من الأعلي,سمع صوت ناي يعزف ببراعة وصوت الصغار يضحكون,فبدأ وجه نبيل يسترد كرامته أمام أونشو الذي قال:

-يبدو أننا وصلنا للنقطة الهائمة في المحيط.

وضع نبيل يده علي الباب ودفعه,دخل يتبعه أونشو.

الأكواخ صغيرة ومتقشفة لكنها نظيفة ومنظمة,البشر هزيلون لكن في عيونهم تتألق لمعه إيمان بيوم جديد يجلو مرار الحاضر من الحلوق,هذه امرأة تهدهد وليدها حتي ينام,وذلك رجل يجلس في صمت حكيم يكتب بانهماك شديد في دفتر,توجه أونشو نحوه وسأله بأسلوب مهذب:

-هل يمكنك أن تخبرني عن الموضوع الذي استلبك من واقعك المزري؟

لم يرفع الكاتب بصره عن أوراقه وقال وهو ما يزال يدون كلماته بشراهة المتألم لجرعة الدواء:

-كلمات يا سيدي...كلمات...كلمات أتمني أن تضئ شموع الغد,كلمات أراها ميناء جميل يطل البحر أو قصر باذخ الأناقة يجتمع في الأحبة,فدان من القمح أو مركب يتهادي علي صفحة النيل ساعة المغرب...كلمات قد تبني جسراً يعبر بنا لحاضر مختلف,كلمات اعتدت كتابتها كيلا أموت كمداً وحزناً,كلمات...

توقف عن الكلام بغتة بمجرد أن سدد بصره نحوهما وصاح في حماس:

-نبيل!نبيل عاد يا سكان مدينة رع!

من بعيد سمعت منة صيحات الناس يهتفون بالاسم المحبوب,فهرعت نحوه وكبحت جسدها في آخر لحظة من الاصطدام به,ثم قفزت عليه في لهفة شديدة فغطي شعرها وجهه وشعر بدفء جسدها يتسلل لدمه,وشم رائحتها التي يحفظها في قلبه,وبذراعين لم تعرفهما غير عطوفتين,حملها بسعادة وغطاها بالقبلات,هذا المنظر جعل أونشو ينظر في نهم لمعرفة سبب تلك التصرفات الغريبة,فلطالما سافر بني جنسه لمئات السنين وعودتهم لا تستدعي إلا تحية عابرة,فيضان المشاعر ذلك جعله ينسي للحظة العالم الذي يقبع خلف أسوار المدينة,لوي نبيل عنقه نحوه بعدما خلصها بصعوبة من أحضان منة:

-إنها زوجتي,بدونها حياتي لا معني لها مجرد أيام تسير دون مقصد حتي تنتتهي.

أبعدها عنه برفق لكنها ما زالت متعلقة بذراعه في بهجة وأعلن بصوت رجولي هز أشواقها نحوه:

-أيها الناس لقد أرسل معي حاكم كوكب كاجورا السيد أونشو ليقرر إن كنا نستحق أن يمد لنا يد المساعدة أم يتركنا لمصيرنا الضبابي الممتلئ بالأوجاع.

تطلع أونشو للوجوه المتباينة حوله تحمل ملامح متباينة,لكنها تندرج تحت الشكل الإنساني الواحد,العيون تترقب بنفس النظرة الواجفة,القوقازي يشبه المغولي,ساكن البحر المتوسط مثل القادم من عمق إفريقيا,الأمريكي كالصيني,الكل يحمل ذات الأمل,التقت عيناه بعين طفلة جميلة تبتس فتحركت بداخله لأول مرة الطبيعة البشرية التي تحول إليها فابتسم هو الآخر في مودة,اتسعت ابتسامة الطفلة ولوحت له في سعادة,الغريب أنها كانت بعين واحدة,مولودة بعين واحدة دون محجر آخر في الجهة اليمني, تشوه غريب سمم وجهها الطفولي.

انطلقت الألسنة التبلبلة تتجادل حول ما سيجري في القريب العاجل,أمسك نبيل ذراع أونشو وقال مداعباً:

-دوري لأنقلك هذه المرة.

-هل تعرف طريقة الانتقال الآني؟

-كلا ولكني أعرف الطريق إلي داري.

في الكوخ استقر نبيل لأول مرة بعد عام قضاه سائحاً في فضاء لا يعرف منتهاه,إن الجدران الخشبية التي تؤويه وابتسامة منة المشرقة في وجهه أرحب من ملايين السنين الضوئية التي قطعها وحيداً .

وضعت منة الحساء علي الطاولة الخشبية,وقفت خلفه ولفت ذراعيها حول رقبته في حنان وهمست بصوت خافت:

-متي سيتركنا ذلك الغريب؟

وأنكر تلك الكلمة التي كانت قبل دقائق تطلق عليه هو الغريب في أرض غريبة,تصنع أونشو الصمم بينما هو ينصت لكل كلمة يقولانها ونبيل يدرك ذلك,هم أن يقول شيئاً وهو يجلسها علي ساقيه,قبل أن يلمح فروة رأس تبتعد عن نافذة الكوخ,جري ناحيتها وأطل برأسه في الخارج فلم ير سوي بضعة أطفال يلهون أمام البئر المجاور,سأله أونشو:

-ماذا حدث؟

-أعتقد أني رأيت شخصاً ما يتجسس علينا.

-أقصد ماذا حدث للأرض كيف خربت؟

سرحت عيناه في قمة الجبل القريب:

-إن التحذيرات من الذكاء الاصطناعي لم تلق بالاً من العلماء,طفقوا يهيئون عالماً جديداً من الروبوتات حتي غدت هي المهيمنة تقريباً علي العالم,في البدء فرح البشر بوقف أعمالهم التي تولتها عنهم الروبوتات وأراحتهم من الإرهاق والكد,ومع الوقت بدأت بوادر الحرب,بدأت الروبوتات ترفض الأوامر,تعطلت الكمبيوترات كلها,أمريكا وروسيا والصين اتحدوا في سابقة هي الأولي منذ قرون للوقف أمام ثورة الروبوتات كما سميت وقتها,بدأوا يطالبون بحقوق بشرية في الحرية والمساهمة في إدارة موارد الكوكب,تجمعوا بالآلاف في كندا,كان منظراً مهيباً رأيته مسجلاً في طفولتي,مئات الروبوتات محمولة علي ظهر عشرات السفن في عرض البحر,هرب الكنديون ليلتها صارخين بالفزع,فقد جنت الروبوتات وبدأت في الفتك بأي بشري تقابله دون إبداء أسباب,لم يصدق أحد أنها نفس الروبوتات المطيعة التي لا يمكن تمييزها في الشكل الخارجي عن البشر,زالت الابتسامات من وجوهها وحل في عينيها غضب عارم تجاه كل ما هو حي,شبهوها بغزوات الأوروبيين لأمريكا وإفريقيا وقرر المعلقون أن التطور يلعب لعبته الأبدية وقد حان أوان إحلال جنس جديد في العالم,خاصة وقد بدأ الروبوتات يصنعون روبوتات أخري,ولم يعد مفر من استخدام الأسلحة التي تجنبها البشر لقرون طويلة منذ أن ضربوها هيروشيما قبل 300عام,وأطلقت الصواركيخ النووية تجاه مراكز الروبوتات,كان من المفترض أن تكون الضربة محدودة الضرر لكوكب الأرض,ما لم نكن نعلمه أن الروبوتات استطاعت سراً أن تصنع سلاحها الذري الخاص,ومع أول صاروخ حددته في الجو,أطلقت صواريخها النووية عشوائياً فطالت أجزاء عديدة من الكوكب فدمرتها تدميراً,زالت نيويورك ونيودلهي وميلان وتل أبيب وطالت حتي القطب الشمالي!انهار الكوكب في ساعة نحس واستمر الضرر مستمراً حتي اليوم بعد تسعين عاماً من الحرب,كما تري نعيش في ظلام دامس السحابة الذرية تحيط بنا,تلوثت التربة فقل الغذاء وأصبح الماء شحيحاً,الحيوانات معظمها انقرض الناس ورثوا تشوهات جينية غريبة,عمر الإنسان الآن لا يتعدي الأربعين تقتله الأمراض الخبيثة في زهرة أيامه هو الذي كان يبتجح بكونه سيد الكائنات الذي استطاع إطالة عمره بالتجميد وتحسين الجينات,المكوك الذي سافرت به هو عصارة عقول جبارة تمكنت من تصنيعه بأقل الإمكانيات المتوفرة رغبة في الحياة...رغبة في البقاء ...كانوا يسمون ضحايا هيروشيما بالهيباكوشا,انه نفس الاسم الذي نطلقه علي عصرنا اليوم...عصر الهيباكوشا,ويكفي أن تعلم أن القنابل المستخدمة في حرب الروبوتات تبدو معها قنبلة هيروشيما كلعبة طفل أو كطلقة مسدس قديم أمام دانة مدفع تكنولوجي ضخم,هل كنت حاضراً يوم بعثوا لنا بالذبذبات؟

-لقد كنت أنا من أرسلها.

-سيد أونشو لو كانت لكم مقدسات أستحلفك بها أن تنقذ كوكبنا.

مع حلول الليل اندس نبيل مع زوجته في فراشهما,وقد تدثرا ببطانية تقيهما البرودة,والمصباح المعلق في السقف يهتز فتتراقص الظلال علي وجهيهما.

-أؤكد لك أني رأيت شخصاً يتجسس علينا,أشعر بذلك منذ أن حللنا بالمدينة.

-حبيبي,إن رحلتك كانت مرهقة إنك في حاجة إلي بعض الراحة,لو كان هناك شئ غامض لكان اكتشفه الرجل القادم من الفضاء.

-إنه في الأرض مجرد من معظم قواه الخارقة.

انتفضت من الهلع وجلست وعينيها تتسعان ذعراً:

-ماذا تقول هل يؤثرفيه ما يؤثر فينا؟

-أعتقد ذلك.

-كما إنك تعتقد أن هناك من يراقب تحركاتكما؟

-أجل.

-إذن فهذا الرجل في حاجة إلي عناية 24ساعة,هل نسيت أن هناك من لا يرغبون في الارتقاء ومن مصلحتهم أن يظل الحال كما هو عليه دفاعاً عن مصالحهم؟

-ولكن هل يبلغ بهم الأمر أن يهددوا حياة السيد أونشو,الرجل الذي يريد مساعدتنا لتخضر الأرض ويعود الماء يجري في الينابيع؟

-لطالما غبطتك علي سذاجتك وطيبتك الزائدة!يوجد من هم علي نقيضك لا يحيون إلا في الظلام ولا تتورد وجوههم إلا وسط الخراب ولا ينامون في الليل إلا لو هدهدت أسماعهم أنات المساكين والمقهورين...

بتر كلامها دوي ضربة هائلة رددت صداها في أذنيهما,هرعا يستطلعان الأمر في حجرة أونشو,فوجدا بركة من الدم يتمدد بجانبها بجانبها جثة مقلوبة علي وجهها,أدراها نبيل فطالعه الوجه الوسيم الذي رآه عند نزوله إلي الأرض,وصرخ بقوة دفعت النيام لليقظة وخرجوا مسرعين يبحثون عن مصدر تلك الصرخة المريعة بينما انزوت منة في ركن الحجرة.

-لا أعتقد أنه مات,لقد فقد جسده البشري فحسب.

-ربما عاد إلي كوكبه.

-قد يرجع من جديد.

-خير له ألا يرجع,إذا عاد سيكون انتقامه عارماً.

انفصلت المدينة منذ ذلك الوقت إلي فريقين,أحدهما راح يجادل حول السيد أونشو,وبدا لهم أن ينظموا جماعات تخرج للبحث عنه في أرجاء الأرض رغم قبره الماثل أمامهم!

وفرقة أخري قادها نبيل وزوجته بدأت تقلب التربة بكدها وعرقها,وتحفر حتي تدمي يدها من العمل لتنقيتها من المواد المشعة وللبحث عن مصدر للماء,أصبحت رحلة الفضاء ذكري يتداولونها في أسي عندما يسمرون قبل النوم,ولما نبتت أو شجرة بعد سنوات من العمل الشاق أطلقوا عليها شجرة أونشو...لذكري القادم من بعيد ورحل قبل اكتمال يوم واحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق