الجمعة، 18 سبتمبر 2020

أقمار وحمير

 

أقمار وحمير

التحم العقرب الكبير بالأصغر وتمت الساعة العاشرة,الشمس محجوبة بخيوط السحاب الأبيض,فجاء نورها مخنوقاً,مذابة حرارته في برد ديسمبر,انحني عم مكرم بنشاط رغم سنواته السبعون وفتح قفل الورشة,شم رائحة الخشب المحببة إليه,نطق اسم الله الرحمن الرحيم ودلف للداخل,من الراديو ينبعث صوت مصطفي إسماعيل يملأ جنبات المكان,مازجاً الإحساس بالآيات مع الفن التطريبي لمدرسة التلاوة المصرية,سحب كرسياً للخارج وجلس فوق الرصيف.

في هذه الورشة أولي ذكرياته عندما ورد علي الحاج حمدي صبياً صغيراً وكان حمدي في مقتبل عمره,امتلأت رئتيه لأول مرة برائحة أصبحت معاشه وكيانه,كانت الورشة يتيمة وقتها,الآن أصبحت ثلاثة ومعها معرضين للأثاث,ومع ذلك ظلت تلك الدكان الأولي هي الأصل,حفظها ابنه كريم وجعلها مقراً للإدارة بعد وفاة والده.

علي الواجهة علقت صورة الحاج حمدي في آخر سني حياته,بالجلباب والطاقية الفلاحي التي لم يخلعها عنه حتي بعد استقراره بمدينة دمنهور,لم يرتح للقميص والبنطلون,يشعرانه بأنه عار والناس تنظر لعورته لم يطقهما ساعة هرع للمنزل جرياً وغير ثيابه الجديدة,بالثوب الذي ورثه عن أبيه وجده بكوم جعيف بإيتاي البارود.

فوجئ بكريم يقف أمامه دون أن ينتبه,بوغت واضطرب من المفاجئة,ابتسم كريم في مودة وربت علي كتفه:

- ماذا أخبرك الطبيب بالأمس عن عينيك ياعم مكرم؟

أشار له مكرم أن يرفع صوته,أحني رأسه ناحية أذنه وزعق:

- ما حال عينيك يا رجل؟إنك لم ترني وأنا قادم نحوك!

-الحمد لله علي كل حال مضي زمان البصر,وها أنا ذا أعيش أيامي المتبقية بنور البصيرة.

-لا تقل ذلك أنك الباقي من زمن الأحباب.

-إذن فالأولي بي اللحاق بهم بعد فوات زمني.

يحسب كريم ضمن كبار تجار المدينة,بالرغم من سنه الذي لم يتجاوز الثلاثين,ظن المنافسين بعد وفاة أبيه أن ورشة حمدي بخيت للأخشاب حان أوان زوالها,موسعة لهم طريق التجارة بمحافظة البحيرة,كالوتد ثبت كريم كل شئ واستمر العمل كأيام الحاج وأكثر قليلاً,تقرب من عماله فأحبوه وأهدوه قوة سواعدهم ونشاط أبدانهم عن طيب خاطر,واستعان بخياله الخصب وإتقانه الحفر علي الخشب ليبدع زخرفيات فنية استمدها من الموروث القديم وحلاها بالتكنولوجيا المتطورة,ناعياً غياب التعليم ولاعناً ما يسمي مدارس وجامعات العاجزة عن الفن والعلم,فتنقص فرحته أن يكون كل العمل مصرياً وتسبب له حسرة عندما ينظر حوله فيجد فساد العقول وانهيار النفوس,نفس ما عاني منه شاباً وعاني قبله سيعاني اللاحقين حتي تأذن قوانين التطور بظهور جيل جديد قادر علي العمل والعطاء.

أراح رأسه علي ظهر المقعد وأغلق جفنيه علي صورة هند,مستدفئاً من برد الصباح بذكري أحضان الأمس الحارة,هند...حبيبته وصديقته وزوجته.

ارتج قلبه عندما صادفها بصحبة أمها في منزلهم,جاءت بها معها وفي طويتها أن يراها لعل الله يكتب لها حظاً من الدنيا في بيت بخيت,بيت العز والخير الوفير,ملتصقة بها في خجل علي كنبة الصالون, وجهها مكسو بمسحة براءة تدنيها من الملائكة كما يتخيلهم,في عينيها دهشة تصارع الخضوع,التي فرضته أمها عليها بالقسوة حتي لا تسمح بفرجة في شخصيتها ينفذ منها شاب عابث لغرض خبيث,والبنت حديث المنطقة بجمالها وجسدها المخروط الموهوبين لها بسخاء.

في الحال وقع في قلبه ما كتب علي بني آدم من الرحمة والمودة,جذبه جمالها الوضاح بالوجه البدري المنير,ضوء يشع في عتمة قلبه,رأته وكوب العصير يمس شفتيها الرقيقتين بلون الورد الأحمر,غلبها الحياء ورفعته عن فمها ناظرة له بعيون سوداء طويلة الأهداب,تمكنت دون تخطيط من دك شغاف قلبه واختراق المهجة,حولت بصرها عنه مسرعة,قامت أمها مرحبة به,سلم عليها ومد يده نحو هند فقبض علي أنامل هشة,سحبت يدها وخفضت بصرها للأرض,وقتها كانت في تتخطي عتبة الحادية والعشرين من عمرها وهو في منتصف العشرينيات,بداية إحساسه بدوران الزمن وتركم الذكريات وتغير الأحوال وانهدام ما شهده عامراً وإعمار ما وعي عليه مخرباً.علي سلالم المنزل اتخذ قراره وقبل أن يتخطي شارع 23 يوليو متجهاً نحو الورشة صمم عليه.

-إن أبيها غير مسئول عاش عمره لا يحمل للغد هماً,سيقول لك خذها كما هي بحقيبة ملابسها,وفي أحسن الأحوال قد ينفق 20 ألف جنيه علي جهازها.

ثم أكمل والده لما رأي علي وجهه أمارات اليأس:

-الرحل طيب ما في ذلك شك,والمرأة نعرفها طوال عمرنا,والبنت منبتها حسن وجميلة وهذا صلب ما أريده لك لتنعم بحياتك,فإذا كانت رغبتك صادقة فيها كزوجة لا مانع عندي وليكتبها الله من نصيبك,أما وضعهم المادي لن يشكل لي أزمة ولو تكفلت بكل المصاريف...من يبحث عن الكمال في البشر عليه أن يحيا وحيداً!وأنا أريد أن أقر عيني بأحفادك قبل حلول الأجل المحتوم.

قابل خليل طلب الحاج بدهشة عارمة,ما بلغ سقف أحلامه أعلي من شخص حسن السمعة بحارتهم المتفرعة من شارع صلاح الدين,يحتوي ابنته بين أربعة جدران وسقف ويوؤيها,بعد الدهشة جاء الاطمئنان,قال لنفسه"عشت طوال عمري لم أؤذ مخلوقاً بل سعيت في الخير كلما هداني الله إلي مسالكه,لم أشك يوماً أو أعترض علي قضاؤه وهاهو الكريم يكافئني بالسعادة تتهادي لابنتي الوحيدة,اللهم لك الحمد في السراء والضراء".

- تشرفونا يا حاج في أي وقت يناسبك.

مد عصاه الطويلة مستعداً للقيام:

- عزمنا أنفسنا عندك الجمعة القادمة وما يريده الله يكون.

اعتاد كريم تأدية صلاة الجمعة بجامع التوبة ثاني مسجد يقام في القارة الإفريقية,بميدان عرابي في قلب الجزء القديم من مدينة دمنهور عاصمة الشمال قبل كفاح مينا لتوحيد قطري البلاد ورسم مصر كما نعرفها, ومنبع الحكمة والنور,في عهد قدماء المصريين وورثتهم اليونانيين,تجاوره كنيسة السبع بنات المبنية في أواخر القرن التاسع عشر لتغدو ملجأ لأهل دمنهور كلهم إذا داهمهم وجع مفاجئ أو ألم شديد,يذهب الرجل رقيق الحال ويعالج بسعر رمزي,مرحوماً من الجزارين الجشعين اللابسين مسوح الأطباء,بعد انتشار الألقاب في فترة انهيار حضاري همش التعليم والأخلاق,فأصبح ما كان قليلاً كثيراً لكنه عديم الجدوي ضرره أكبر من نفعه.

في تلك البقعة يسري في روحه شعور غامض,تاريخ عريق ممتد للجذور الأولي للإنسانية,استهواه وجعله من حفاظ تاريخ المدينة,منذ سماعه لراو عجوز يحكي في مناسبة ما أن حورس واجه عمه ست الشرير في ذلك المكان,انبثق في وعيه تساؤلات لا حصر لها,أشبعها بالاطلاع واستدامة المعرفة كواجب مقدس,وعمل سري لا يليق بابن أهم رجال المال والأعمال في المدينة حياته الظاهرية سلسلة من الأرقام والتعاقدات والفواتير,في النهار يعيش واقعه وإذا جن الليل يعود آلاف السنوات إلي التكوين الأول للحضارة المصرية القديمة,مع الوقت أصيب الإيجيبتومينيا(الولع بالمصريات).

عقب أداء الصلاة عرج لمحل كوافير رجالي في منطقة دمنهور الجديدة موئل رؤوس المال الكبيرة, الماركات العالمية, الأبراج العالية والحداثة بوجهها القبيح حين يصبح ميدان توفيق الحكيم ميدان كنتاكي وتتحول سينما النصر الصيفي لمكان بيع خضروات وفواكه,المكان مؤسس بفخامة يعمل فيه شباب يستنكرون اسم الحلاق ويفضلون عليه مصفف شعر,وضعوا الماسكات علي وجهه وسرحوا شعره الكثيف,راقت بشرته وأضاء وجهه بفعل التنظيف والتنعيم,وعند الساعة السابعة ركب مع أمه وأبيه في السيارة وانطلقوا نحو بيت هند.

استعانت خديجة بأختها التي فاتها قطار الزواج لتجميل المنزل,استعارت الأكواب والأباريق من بيت أبيها واشترت غطاء أنتريه ليستر قذارة واهتراء المقاعد, عندما شعرت بالسيارة تدخل إلي الحارة هرعت لحجرة ابنتها واستكملت زينتها وتعطيرها,وسمحت لها باستخدام المساحيق لأول مرة في حياتها رغم سنها الناضج,فبدت كنجمة هوليوودية ضلت طريقها للسجادة الحمراء أو إحدي فاتنات ألف ليلة وليلة هاجرت من بغداد واستقر بها المقام بدمنهور في حارة مظلمة ومنزل انحنت أركانه قليل الفرش عاطل عن الرفاهية,أو هيلين فرت من طروادة لتأمن بين جنبات حورس في مدينة هرمس كما دعي أجدادها المدينة التي حل بها تحوت رب الكتابة والحكمة واقتبسوه هم في شخص هرمس الحكيم.

توترت أعصابه لمرآها وتمني لو يتلقاها بأحضانه بعيداً عن الأرض,بمكان بين جبال القمر أو حفر المريخ,حاملة صينية امتلأت بالجاتوه والحلويات الشرقية,احتضنتها أمه بدلاً عنه,وكانت تحبها ومعجبة بأخلاقها وأيدت رغبته علي الفور عندما أعلنها,والأهل تتحدث عن الترتيبات والتعجيل بالبر قدر الإمكان,فكر أنه الآن يمتلك الحبيبة التي شغله خيالها طوال عمره,شكه في قلبه الخوف من الفرح والسعادة,فلا يوم بهجة إلا ويعقبه يوم حسرة ومن ذاق السعادة عرف الحزن,نفض عن ذهنه الأفكار السوداء واستغرق في اللحظة,تبادل معها النظرات,لاحظ أبيه ما يعتمل في صدره,قال مبتسماً بنظرة"سأريحك منا الآن":

-خذ خطيبتك يا كريم إلي الشرفة,وتكلم معها قليلاً,ثم ضحك ضحكة عالية:

-لكن حذار أن تجعلها تغير رأيها فيك.

ضحكت هند بعذوبة,أثارت عطف الحاج عليها فقال:

-ليهنئكما الله يا ولدي ويرزقكما الذرية الصالحة.

الشرفة عبارة عن ألواح خشبية متراصة أحكم عليها قطعة موكيت,تعجب كريم كيف تحتمل وزن أمها الثقيل,قامتها بالكاد تصل إلي كتفيه,وجهها مضرج بحمرة زادتها فتنة وعيناها الزائغتان تبعث فيه الرغبة,لأول مرة في حياتها تنفرد بشاب ولو أنها تشعر بنظرات أمها تخترق ظهرها عابرة من مجلسها لباب الشرفة المفتوح,وقفا صامتين لدقيقة محرجة,عصر كريم رأسه ليجد موضوعاً يحرك به لسانه فلم يفلح,توجه ببصره نحو السماء الصافية,القمر في تربيعه الأول يبخل بنصفه عن الظهور:

- حلمت ذات مساء بعيد غاب في خضم الأيام إني فوق حمار يطير بي نحو القمر.

انفلتت ضحكتها صافية,جعلت الأسرتين في رضا نطقت به ملامحهم,نظرت ناحيته ببهجة ولأول مرة توجه له الحديث:

-حسبتك ستقول حصان أبيض أو ما يشبه ذلك!

-أحكي لك عن حلم خالص بي لا فيلم أجنبي,ثم إنني أحب الحمار وأعتبره أعظم حيوان,حمول صبور ذكي,مسالم وطيب يعمل بلا كلل ويتقبل القليل في رضا,لا أعرف لماذا يهان ويحقر ويصبح اسمه مسبة,فكرت أنها لو قالت له مستقبلاً"يا حمار"فلن يغضب,ابتسمت للخاطر ولم تعلق عليه,بدلاً من ذلك قالت:

-ولماذا تود الرحيل للقمر؟

-عالم بكر جديد,ليس به حروب أو صراعات أو إحن ظاهرة وباطنة,لكنك فُتيني في الكلام,كنتِ معي.

-أنا؟! أو كنت تعرفني؟

-رغم أن أمك صديقة لأمي لكني لم أرك قبل ذلك اليوم عندنا,روحك التي أشعر بها الآن تتغلغل فيّ,كانت ترافقني .

-ربما كنت أنا الحمار هل أنت متأكد أنه حمار أم حمارة؟

امتزج صوت ضحكاتهما وتلاشت في نسيم الليل الرقيق.

-وأنتِ بم تحلمين؟

-إنني عادة لا أحلم أثناء النوم,أحلم في اليقظة؟

-ما الذي ترينه في اليقظة؟

-أني زوجة وأم.

-فقط؟

-لا يوجد في الدنيا أعظم من زوجة مخلصة وأم رحيمة.

توقعت لحديثهما الأول أن يكون حول المفضل من الأكلات أو تقلبات الطقس,أو حديث عن أناس آخرين,أي نوع من الكلام الذي يملأ به التباعد الروحي عن الآخر,فيحشي الفم لعل القلب يستتر بفراغه,لم تتخيل حديثا عن الأحلام تتخلله أقمار وحمير,عاد الصمت من جديد,قطعته هي هذه المرة:

-أحياناً أري نفسي في المنام أسير في حديقة كأنها الجنة,لكن قدمي مقيدة بفولاذ قاس أسعي للتحرر منه حتي لو كان مقابل الخروج من الجنة.

فرقع صوت كيس قمامة ارتطم بالأرض من علٍ,أراد أن يهوي علي فمها وخدها بقبلات لانهائية,وشعرت هي بأنها تعرفه منذ الأزل,قبل النشأة الأولي وقبل ظهور الشمس والقمر وسقوط حبات المطر,وقبل تكون الجبال وامتلاء البحار والأنهار.

أفاق من سيل ذكرياته عندما ينهار سد الحاضر ويهجم الماضي بالحلو منه والحادق والمر,والشاطر من يستدعي الحلو وينبذ ماسواه,علي صوت "نيو"كلب حراسة الورشة والأخشاب المرصوصة خارجها وهو يتقافز في سعادة أمامه,داعب ظهره بلطف ونادي سمير أجدد عماله,طلب منه ساندويتشات الإفطار,ركب سمير الدراجة عابراً طريق المحطة حتي توقف أمام مطعم"الأصيل"مكان كريم المفضل للأكل,يعرفون طلبه إذا جاء ويبعثون به إذا أرسل نائباً عنه,لفت ساندويتشات الفول والطعمية والبطاطس مع أكياس المخلل علي المكتب أمامه,عزم عليه كريم كما يفعل كل مرة,هذه المرة قبل العزومة وجلس,مد له يده بالطعام,رده بلطف وأدب زائف:

-إنني أريدك في موضوع يا أستاذ كريم.

-خيراً؟

-صلي عالنبي,الخير إذا جاء للبني آدم منا يأتيه دون سعي,لا تصدق من يقولون تعبنا وشقينا,إذا كان ذلك هو سر الرزق لحق لكل الناس أن يصيروا أثرياء,أبي سف التراب وإخوتي وأعمامي وأبناء أعمامي وأنا, وليس في جيب أحدنا ثمن تلك الوجبة البسيطة التي ستلتهمها بالهناء والشفاء,عائلة من العرق والكد والفقر...علي كل الدنيا حظوظ قسمها المولي بحكمته وإني وسيط لما فيه الخير لك ولي وللطرف الآخر.

عدل من جلسته علي الكرسي وواجهه وهو يكتم دهشته من سلوكه الغريب وكلامه الأغرب.

استمر سمير يتكلم وهو متكأ علي المكتب بذراعه:

-يبدو أن أبيك رحمه الله كان رجلاً مبروكاً,الأرض التي ابتني عليها بيتكم,تحتها ما يساوي كنوز ألف ليلة وليلة,ربك والحق أنا لم أفهم كثيراً من كلام الخواجة البريطاني عالم الآثار ذلك,الذي سلمني خريطة قديمة توضح المكان الذي ركب البحر ليصل إليه,وأفهمني أنه يقع تحت بيتكم,وإذا كان أهل الخليج منعمين بالبترول فالمصريين لديهم آثار وأسرار تهوس العالم,سيفني ذلك الزفت الأسود ويبقي ما شاده الأوائل شاهداً علي العظمة التي كنا فيها,هؤلاء الناس الذين بعثوني لك يريدون شراء البيت بأي ثمن حتي لو وضعت عشرة أصفار أمام رقم,سيوافقون علي الفور.

نظر له كريم مشدوها,قام سمير ودس يده في فتحة قميصه,التفت حذراً لئلا يراه أحد,أخرج رقعة جلد مطوية وفردها:

-لولا أني أعرف أنك من أهل الثقة,ما تركت عينيك تقع عليها,لكني سأعطيها لك يومين لتتأكد من صحة قولي.

تركها أمامه بجوار الطعام واتجه للباب,استدار قبل بلوغه:

-أستاذنا,فكر قبل الجواب,ولا تفهمني خطأ أرجوك...هؤلاء الناس يصلون إلي أغراضهم دوماً بالرضا أو بالغصب.

بعضهم من بعض

1560ق.م

امتدت ظلال المساء أمام جدران معبد حورس,تحرك الكاهن الأكبر من وقفته التي طالت منذ الضحي في الشمس المحرقة,أجج خدم المعبد النار في المشاعل,فأخذت الظلال تتراقص حول تمثال هائل لأوزوريس مبتسماً في ثقة ينظر نحو مشرق الشمس بثبات العالم وحكمة الفيلسوف.

اقترب الكاهن الأكبر من البوابة الرئيسية للمعبد المقام غرب مدينة دمنهور,علي وجهه سمات تنم علي القلق والتوجس,لوي رأسه نحو التمثال الكبير وتنهد في حرقة يخاطبه:

-مولاي الصالح أوزوريس ألهم مريدينك الصواب في الأيام متلاطمة الخطوب,قوني علي حمل الأمانة ولا تدع سلسال حملتها يتخلخل,حتي لا تضيع وسط السنون.

فتح كوة في الباب المشرقي وأطل علي الشوارع التي غاب عنها ألق الحياة وقبع أهلوها في البيوت,ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث,أبصر الساحة أمام المعبد فوجدها قد خلت من الزوار بنذورهم وآمالهم التي يعرضونها علي الإله الواحد الموجد نفسه بنفسه, بجوار صفيه أوزوريس لعلهم ينالون شفاعة الرجاء,دفع الباب وخرج بعد أن أشار لتلميذه الأثير كاي أن يتبعه,مضيا وسط الحدائق المزروعة وعيدان الريحان النامية علي شرفات المنازل,حتي وصلا إلي ترعة تلعب فيها الأسماك لاهية بحياتها البسيطة عما يجري فوق الأرض,أومئ الكاهن نحو الترعة:

-في يوم ما كنا سمكاً,وآخر كالطير في السماء ودابة الأرض,جري علي البشر صنوف من التغييرات والتحولات في مبدؤهم,تبعها كلها نتيجة واحدة لا فكاك منها...الموت.

تعود كاي أن يستمع لمعلمه في خشوع عميق,كعالم ينطق بأسرار الإله الموحاة له بالتجربة والاكتشاف فيفهم عن الدنيا ما يتعجب منه ويستزيد,لكن الكاهن في الفترة الأخيرة يكثر من ذكر الموت,ليس في دروس الأحياء فقط,في الكيمياء والطبيعة وعلم النبات,الموت ليس غريباً علي المصريين,لكن حياتهم احتشدت بجمال الدنيا وزينتها,حدق طاي في الكاهن,وكان أسمر الوجه ,لحيم,صلعته واسعة بمنتصف رأسه,يتكلم ببطء وأناة صوب الكاهن نظراته نحوه,تأمله في تمعن وقال:

-كاي...عما قريب سيحين أجلي,أشعر به دانياً,قبل الوداع الأخير أود أن أودعك شيئاً تحفظه كروحك,فضلت إخبارك به في مكان لا يوجد به مخلوق,هذه الأمانة ليست عرضاً لك حق رفضه,بل واجب مقدس تجاه بلادك وشعبها والأجيال القادمة,توارثه الكهنة في المعبد سراً وكنت أنا الحلقة الأخيرة,ولست بمستأمن خليفتي عليه,فلطالما تباهي بعلاقته مع الرعاة الأجانب,ولم أجد خيراً منك لحمل الأمانة.

أخرج من عباءته الكهنوتية البيضاء برديات عديدة,قرأ كاي عنوانها"ألواح تحوت"ارتعشت أطرافه,فلم يكن يصدق أن لهذه الألواح وجوداً حقيقياً,لقد تباعد العهد بتحوت حكيم دمنهور فكيف وصلت هذه الألواح لعهد الملك سقنن رع.

مد يده نحو البرديات في فضول مرتجف,عازم علي فتحها,أوقفه صوت الكاهن الأكبر ناهياً:

-تلك الأسرار لم تكتب للفانين,لا تحاول الإطلاع عليها إن كنت تود الاحتفاظ باتزان عقلك وسيرك العادي في الحياة,مهمتك حفظها ونقلها لجيل آخر وهكذا من أمين لمأمون,وإلا وقعت في يد الأشرار وتناثر شررها في العالم كله,ضغط الكاهن علي يد كاي بضراعة تعجب صدورها من رجل بهذه المكانة,تمتم كاي من قلبه الطيب:

-أعدك يا معلمي

1ق.م

تحت الشجرة سوي ماركوس التراب بيديه,وعلم المكان بحفر مفتاح الحياة عليها,كل شهر يأتي للاطمئنان علي كتاب تحوت,ينبش الحفرة ويتم علي عدد البرديات,ثم يحشرها في باطن الأرض من جديد,كل عام في مكان مختلف.

450م

داس شنودة علي بلاطة في وسط الدار فانخفضت درجة وارتفعت جارتها,نزل للسرداب الفسيح,يقبض بكفه علي ميراث أبيه السري,زحزح تمثال ضخم لمريم العذراء,فتح في قاعدته مخبأ سري أودع فيه البرديات,استعان بالعذراء لتحمي خبيئته,تمتم بصلاة قصيرة وارتقي السلم في عجالة.

1518م

ركض عبد الرحمن إلي داره بلغت الأنباء دمنهور بغزو العثمانلية مصر بعد هزيمة السلطان طومان باي,وتناقلت الألسن هتكهم الأعراض وسرقة الأغراض وشحن كل ما له قيمة من بشر أو حجر إلي القسطنطينية,ليغتني بافتقار غيره,لم يفكر في أسرته,استولي عليه الذعر من ضياع الأمانة,نادي ولديه سعيد وسعد,طلب منهما حفر حفرة بحوش الدار بأقصي مدي يصلون إليه,أطاعا أبيهما رغم تعجبهما,الدنيا تنقلب وهو ينقب الأرض!تركهما ودخل لحجرته أفرغ صندوقاً من زينة الصناعة المصرية تكاد منمنامته تنطق من سحر الفن,دس فيه البرديات وغطاه بكيس من الحرير,نزل إلي باطن الأرض ثبت فيها الصندوق,وأهال عليها التراب باكياً وجلاً,وقد وقع في يقينه استحالة رؤياه ثانية.

 

أداجيو

الفلاح مفارقه منذ خطواته الأولي في الدنيا,كل شئ يجانبه فيه التوفيق,حتي الفرح والاطمئنان النفسي لم يذقهما يوماً,تركيبته النفسية مفطورة علي حب الألم والأسي,وحدها سمر كانت حلوي حياته الممرورة,كل ليلة يسافر لها من دمنهور للأسكندرية العروس العجوز التي تعمل فيها يد غليظة لهدم الجمال ونشر القبح,ليراها تعتلي المسرح في كازينو لاروز علي شاطئ العجمي,منفرداً علي لسان صخري يتداخل مع الماء.

دخلت الليلة مرتدية فستان أزرق قصير يكشف عن مساحة كافية من الفخذين والكتفين,في عينيها السوداوتين لمعة تمنحه نفحات من الحيوية تقيه زحف الشيخوخة المبكرة,الضجيج من حوله يتلاشي ينفتح قلبه قبل أذنه,يسند رأسه بين كفيه,وينساب مع أغانيها الشرقية والغربية,تغني عالمة استغراق الموجودون في الطعام والشراب وانتظار الرقصة القادمة,تغني ومن حولها يسخر منها أو يلتهم لحمها بعينيه بوقاحة,تغني خيبات العشاق وآلامهم بالعربية والفرنسية والإنجليزية,ومعهم تدفن آلامها في حبها المدفون شاباً منذ سنوات عام 2011حيث جري ما جري,ومات من مات ضمنهم خطيبها أحمد.

أشارت له محيية في مودة,انتفض ولوح بيده في سعادة,التفت للفرقة -توقعوا منها ما سيسمعونه,يتكرر الوضع منذ شهور طويلة-توزعت نظراتها بينهم وبينه,ابتسمت لهم وقالت بصوت هامس:

-أداجيو.

بدأت تقلد لارا فابيان في أغنيتها,تقاوح أحبالها ليخرج منها الرنين الأوبرالي تنجح مرة وتخفق أخري,انتهت من مناجاة الحب والتضرع له,احتبتست في قلبها دمعه كتمتها بإصرار,أنهت فقرتها ونزلت متوجهه نحوه متوجة بهالة مرمرية من الجاذبية,جلست أمامه تمد له يدها الرقيقة,وقد أحاطت كتفيها ورقبتها بشال خفيف:

-هل أعجبتك الأغنية الليلة يا جورج؟

لحظتها راق جورج من كل شئ,نسي مكالمة كريم  التي أربكته في الطريق وما سرده عن آثار وحفر وخارطة,واستغاثته به لدارسته علم المصريات دراسة حرة بعيداً عن"الخراء المقرف"كما يسمي نظام التعليم,ونبوغه فيها مما جعله مطلباً لشركات السياحة الكبري وكونت له صداقات في سائر بلاد الدنيا,اتفق معه أن يراه في الغد,أما الليلة فلن يسرقها أحد.

كدرة يخشي عليها من تلويثها بأصابعه,احتضن يدها في وَلهّ وقبل ظاهر كفها وباطنه:

-أجمل من لارا فابيان بمراحل.

ابتسمت لأنه يكذب مجاملة لها وابتسم هو لأنها تعرف ذلك وتطورت البسمات لضحكات عالية,كلما نظرا لبعضهما أغرقا في الضحك,قالت له وهي تلهث:

- ألم تمل من غنائي لها كل ليلة؟

-ليتها كانت كل ساعة!

ارتطمت موجة قادمة بشوق عارم في الصخور كأنها منتحرة تلقي بنفسها في أحضان الفناء,ترددت في سمعهما كنغمة حزينة تؤذن بانقضاء الزمن.

وبدأت نجواهما الليلية تنبعث من القلب...

كان جورج يمر بمرحلة يأس في الحياة جعلته علي مشارف الانهيار,قرر أبوه السفر للأسكندرية لعل الولد يهدأ ويصفي كماء الشط في الصباح قبل أن يخوض فيه البشر,في بداية العشرينيات لا يعرف الإنسان موقعه في الحياة,وفي مجتمع مضطرب كهذا لا يعرفها حتي الممات,والصداقة تمثل للشاب حياة كاملة وعين صافية,كأنها حب لكن نزعت منه الرغبة والادعاءات الساذجة بين ذكر وأنثي,عندما نشر جورج أولي مقالاته في موقع مفتوح للجميع لم يدرك وقتها ذلك,شعر أن الدنيا أخيراً تفتحت له زهورها,هاهو مكانه يناديه لعالم الكتابة الفكرية المحملة بقضايا القرن المشحونة بالملامح الكونية المنبثة من قعر التجربة الإنسانية....وكل هذه العبارات التي ساقته لما هو عليه اليوم,فوراً اتصل بصديقه ريمون حتي يشاركه فرحته الجنونية,نزلا علي المقهي وعزمه علي المشاريب,قهقه بسعادة وفرحة وهو يحكي له ويحكي,كان دوماً يحكي له يلقنه ويشرح له ويعطيه خلاصة معرفته,استكثر عليه ريمون كل تلك السعادة,وقد حفظ كلامه من جلساتهما سوياً وأحياناً يسميها"المحاضرات",اغتاظ أولاً لسعة علم جورج أمام ضحالة ريمون المتوهم أن تجميعه درجات جيدة في أسوأ نظام تخريبي في العالم,كفيل أن يضفي عليه رونق العلم والكفاءة ألم يصبح الدكتور ريمون وهاهي صيدليته يجهزها له أبيه حتي يتخرج,أراد مزاحمة جورج كتب ما حفظه عنه وأرسله فنشر,وبدأ يقرعه ويقلل منه ويسخر,وجورج حزين وصامت لا يريد إهدار عشرة سنوات جاوره في المدرسة والكنسية كان جورج هو البليد في الفصل والسارح في العظة الإسبوعية,حتي قرر أحد البلهاء في الفصل ممن يسمون أنفسهم مدرسين تفريقهما وقد أعلن بسادية:

-إذا فشل ريمون فجورج السبب ولو نجح جورج فريمون السبب,قم واجلس بعيداً عنه لأنك علي الأرجح ستشده معك للقاع.

بعد هذا الموقف تزلزت حياة جورج وندم علي إظهار فرحته لصاحب عمره,وتعلم أن يداري علي شمعته,لكن الأثر تركه محزوناً وقد توالت عليه ذكريات الكئيبة,لاعناً ما زرعه ريمون في قلبه من غل وكراهية وقد عاش لا يعرفهما,تعكرت الحياة في عينيه وبدأ يري الناس علي حقيقتهم,مجموعة من الحمقي اللاهيين العاجزين عن الفهم والإحساس,يبادلون الجواهر النفيسة بوحل الطرقات إذا وجدوا فيه ما يرضي العته الساكن في عقولهم,معني ما نقص من حياته,لكن ما يفسده الحمقي تصلحه الجميلات.

في أول ليالي أسرته في شاليه العجمي المستأجر,نزل جورج مع أخيه وفي قلبه حسرة وغضب لا يلين,حتي يتنزهان علي الشاطئ

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق