الثلاثاء، 22 يونيو 2021

من النيل إلي اليانجستي

 

من النيل إلي اليانجستي

بمرور الأعوام وازدياد حصيلة قراءاتي في علم الصينيات يتعاظم إعجابي بـ"المملكة الوسطي الزاهرة",أو الصين كما تعرف في الثقافة العربية نسبة إلي مملكة تشين التي قامت بتوحيد الأراضي الصينية,فأصابني شغفاً لا أريد أن أبرأ منه أبداً بحضارة الخمسة آلاف عام الصينية,وكلما اقتربت من ثقافة تلك البلاد شعرت بالقرب النفسي والثقافي الذي يشبعني روحياً,ويتأكد لي أن العلاقات المصرية الصينية تمتد لأبعد بكثير من 65عاماً الدبلوماسية التي بدأت في 30مايو 1965,بتعيين حسن رجب أول سفير مصري علي أرض الصين,ليصبح شاهداً علي مظاهرات عارمة في ميدان السلام السماوي"تيان آن من" تؤيد حق مصر في قناة السويس وتساندها ضد الدول الاستعمارية الكبري,وزيارة رئيس الوزراء التاريخي للصين"شواين لاي"لمصر ولقاؤه بقوتها الناعمة وظهوره في صورة تجمعه مع أبطال فيلم الناصر صلاح الدين يضحك مع الفنان صلاح ذو الفقار والفنانة نادية لطفي,وقد جمعه مع صحفي القرن محمد حسنين هيكل بعد ذلك بسنوات أحاديث مطولة في مكتبه ببكين سأله فيها هيكل"كيف تري المتغيرات الرئيسية في العالم اليوم؟"فيجيب بحكمة لخصت تاريخ الصراعات البشرية منذ فجر الحضارة حتي وقتنا الحالي"انقسامات جديدة...تحالفات جديدة...ثم فوضي في كل مكان",ويعلق هيكل"وأعترف إنني لم أسمع وصفاً لحالة العالم المتغيرة الآن أدق من هذا الوصف الذي سمعته من شواين لاي".

الأدب الشعبي الصيني له حكم رنانة بنفس نغمة الأدب الشعبي المصري تردد معاني العدل والفطنة والحب والإخلاص,وأدباء الصين الحديثة كأنهم يتحدثون عن القري المصرية,مويان كأنه خيري شلبي في أسلوب الواقعية السحرية ليعبر عن آلام وإحباطات الفرد العادي,ويو هوا كأنه يوسف إدريس يحكي عن المنسيين وتجاربهم العظيمة في الحياة التي تكاد تضيع لولا جهود فناني الشعوب.

وأمام الشاشة بكيت بحرقة كأني أبكي آلام أفراد عائلتي في كل مرة أشاهد فيها فيلم"فترة عمر"للمخرج انج ييمو,أحد أبرع المخرجين في العالم وأري في النجمة جونج لي ما يذكرني بسيدة الشاشة المصرية فاتن حمامة,نفس الأداء المتمكن الهادئ والأدوار الراقية التي تعبر عن المرأة في تاريخ الشعبين,هذا الفيلم ضمن قائمة الأفلام العظيمة بالنسبة لي أشاهده مراراً ولا أمِل ولا أتوقف عن التأثر.من السينما الصينية يصلني نبض الصين,أسمعه في مصر يعبر حاجز اللغة والمكان وينزلق إلي عقلي وفؤادي فيلمؤهما بالمتعة والبهجة.

ويغزو الطاو روحي,تلك الفلسفة المدهشة العميقة التي لخصها لاوتسو في 5000كلمة,لكنها تحتاج لقرون من الدراسة والتمحيص,فهي كفيلة بتغيير النفس الإنسانية لو وعاها البشر,وكونفشيوس يهذب أخلاقي ويجعلني أمجد العلم وأعشق الصدق وأقدس النظام,ولا أسأل أخي الإنسان في أي بقعة من الأرض إلا عن عمله فإذا كان خيراً فهو صديقي وقدوتي,دون أي اعتبارات لبلبلة الألسنة واختلاف العقائد وتباين الألوان والجنسيات فما يهمني القلب العامر بحب الخير,وإذا كان شراً فواجبي كفرد في الكتيبة الإنسانية دفع الشرور,وبين الآداب القديمة جلست علي الأرض في تواضع كما جلست مراراً في خيالي بين جدران المعابد المصرية القديمة,أتعلم وأتأمل وأحلم بعالم جميل,وقلبي فارغ من الشهوات لا أطمع في شئ كما علمني الطاو تاركاً المياه تجري كما تشاء,ليس علي سوي العمل والمحاولة دون القلق علي الجائزة.

ومن تجربة "دينج شياو بينج"التي أطلقت النهضة الصينية لتصبح الصين قوة عظمي لها حضورها الفعال في كافة مناحي الحياة,فهمت كيف ينتج عن الكفاح والإخلاص حياة جديدة كلياً,فبعد معاناة طويلة من الحروب والمجاعات والقلاقل والاضطرابات والمذابح البشعة خلال الحرب العالمية الثانية ينبت من الدموع والخراب ورود المستقبل,وهذا درس في الحياة الشخصية,بأن الغد يحمل الكثير من النجاح والجمال لو قاومنا بشاعة الأمس وعملنا بإيمان وصبر علي محن اليوم.

من مصر إلي الصين شعباً وحكومة,مازلنا في الخطوة الأولي,ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة كما ذكر لاوتسو,ليكن طريقنا أبدياً نمشيه سوياً لتتوالد مناطق شبيهة بمنطقة تيدا في منطقة قناة السويس,ويتكاثر من بيت الحكمة الصيني الموجود في قلب القاهرة ألف مشروع,ويظل المركز الثقافي الصيني بقعة نور لتكشف تاريخ وثقافة بلادكم الزاخرة بالحكمة والمعرفة والصبر والعمل,ويستعيد طريق الحرير التاريخي حيويته من جديد لتبزغ شمس الشرق من خلال تعاون شعوبها,وننبذ كل ما من شأنه التمييز بين البشر ونمضي علي طريق تعاوننا الثقافي والاقتصادي والسياسي يداً بيد,فإذا كان القرن الحالي كما يتنبأ علماء المستقبليات هو قرن التنين الصيني فلن يكتمل سوي ببلاد النيل العريقة ومكانتها التاريخية الباذخة علي مر العصور.

أحاول استحضار الثقافة الصينية في عقلي وقلبي وأناهنا بين أحضان حضارتي المصرية معشوقتي وأساس كياني التي تعرف للصين عظمتها,كما تدرك الصين عظمة وادي النيل,وكعادة أصحاب الحضارات الكبري يحتلهم الشغف ببعضهم البعض,فمن مدينة دمنهور,مدينة حورس,تحياتي أيتها السيدات والسادة القاطنين علي ضفاف اليانجستي...تحية إعجاب لا ينتهي بعظمة مضت وعظمة أخري نشهدها الآن بأعيننا.

محمود قدري

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق