الجمعة، 8 أكتوبر 2021

محراب الست

 

 

 

لما أعلنت مجلة فنون عن رغبتها في إصدار عدد يحرره القراء،حول الفنون بأنواعها،فكرت في الموسوعي الكبير ثروت عكاشة صاحب موسوعة العين تسمع والأذن تري،وبدأت في تقصي أعمال هذا المثقف الكبير الذي تفخر به مصر وحده علي مئات بل آلاف من الأقزام أدعياء الفن والأدب،لكن سرعان ما تبين لي أن نفس المجلة تعلن عن قرب صدور عدد خاص بعنوان"ثروت مصر"مخصص لفارس الثقافة النبيل ثروت عكاشة وهو تقريبا نفس العنوان الذي اخترته!فعدت إلي أدراج عقلي فقفزت منه فجأة صبية فلاحة ترتدي الجلابية وتهرع مع أقرانها إلي الكتاب،تستذكر سور القرآن القصيرة خوفا من عصا سيدنا وقت التسميع،وأحيانا تخلع الشبشب لتركض حافية مع أترابها،أو تذهب نحو غيط أو جنينة كي تحظي ببعض البلح أو الجوافة،وتعحبت كي ستكبر هذه الفتاة لتصبح كوكب الشرق وسيدة الأسماع وملكة متوجة بين محبي فن الطرب،كيف ستصير سيدة مجتمع راقية بل سيدة مصر الأولي في القرن الماضي كله. مرت أمامي سنوات عمرها حتي رحيلها عام ١٩٧٥عن حوالي ٧٦عاما في الأوراق الرسمية،أو أزيد بعشر سنوات كما يقيم بعض المؤرخون مولدها!فوجدتها حكاية مدهشة ليست علي المستوي الفني فحسب بل المستوي الإنساني،رحلة صعود من القاع إلي سابع سما،رحلة كتب لها الخلود،مع امرأة لن يخبو صوتها أبدا،فهي صوت الحب والشعب والحياة والوطنية،مصر الجميلة عندما وهبتها الطبيعة الحنجرة،كل الناس يكذبون لكني أصدقها عندما تعلن"أنا الشعب"وأرثي لها'أنا في انتظارك". تمر السنوات ويزاد المزيفون، وينهار الفن كنتيجة لانهيار المجتمع بفعل نظام التعليم العقيم،وهي كالحجر الكريم يزداد لمعانا وألقا،ويزاد عشاقها علي مر الأجيال،في كل مكان تسمعها وأجمل وقت لسماعها هي تلك المرات التي تصادف فيها صوتها دون ترتيب،في الشارع،في المواصلات،في بيت الجيران أو المحل المجاور،تبدأ في الإنصات،ويرتعش شئ صادق في القلب ينفض عنه كل الزيف والغش علي مدار اليوم كله،هي سعيدة بصدق وحزينة بصدق ومتألمة بصدق،هي ابنة إبراهيم البلتاجي،كان من الممكن أن يموت هذا الرجل وينسي بعد أعوام كمعظم البشر لكن اسمه عاش لأن من صلبه حبيبتنا أم كلثوم إبراهيم البلتاجي. هذه الفلاحة المصرية- وتلك الآن صفة يستخدمها المتنمرون-امرأة مدهشة،وككل المدهشين والمدهشات حاصرتها الشائعات التي تظلل سيرتها وتاريخها،وسجلت سيرتها في مسلسل تليفزيوني من تأليف محفوظ عبد الرحمن وأدت دورها صابرين باقتدار فتح الباب لموجة مسلسلات وأفلام السيرة الذاتية وصدر عنها عشرات المؤلفات،ومع ذلك ما يزال في حياة أم كلثوم الكثير ليروي،قصص ونوادر وحكايات يعرفها الأقربون،فإذا كان المسلسل صورها كامرأة مثالية،فالعارفون بها يدركون نقائصها ومشكلاتها النفسية،فهي مثلنا تماما إنسانة تمر بالتجارب والظروف فتؤثر فيها،ومن منا مثالي وإن كنا نطمح،وأي إنسان يخلو من العيوب والنقائص،ومع عشاق أم كلثوم لا تنقص عيوبها من حبهم شيئا بل ينفتح في القلب باب جديد لأم كلثوم الإنسانة،التي مرت بلحظات عظمة ولحظات ضعف،إن حياتها مادة ثرية لا تتوقف علي فيلم واحد أو مسلسل،بل تحتاج لعدة أعمال تروي حكاية فتاة طماي الزهايرة ورحلة خلودها،علاقتها مع أبو العلا محمد وهل تورط في حبها،وكيف تكون العلاقة بين شيخ عجوز وصبية تتفتح للحياة،لقد أحبها الكثير لكن هي من أحبت؟وهل كانت حقا لها ميول مثلية كما تقول الحكايات؟كيف استقبلت النكسة وكيف عبرتها للنصر،وكيف واكب صوتها تحركات السياسة،فقد غنت للملك فاروق ولناصر والثورة والحرب،وعندما أقر السادات سياسة السلام لم تتأخر فودعت السلاح وابتدأت بالسلام! هل كانت فلاحة لئيمة حقا،أم امرأة ضحت بكل شئ في سبيل العظمة؟أسئلة عديدة تستحق روايات ومسلسلات كلها عن أم كلثوم،ورجال ونساء عصرها،منذ تعرفها بالسنباطي ورامي ومصطفي عبد الرازق،حتي جيهان السادات وبليغ حمدي،مواقف درامية ممتلئة بالعمل والكفاح والطرافة والوطنية والعقد النفسية. ستدور الأيام وتنقضي آلاف الليالي،وستظل هي بكل ما فيها من خير وشر،رمزا من رموز الفن المصري نحكي عنه ونتجادل،نحلله ونصيغه في قوالب،ونستعيره في الدراما والروايات،وعندما ينتهي كل شئ،ونسعي إلي لحظات سعادة وطمأنينة نسرقها من الأيام الشحيحة،والأوقات المتشنجة وأزمات الحياة اليومية،سنلجأ إلي محراب الست،لنري الكون بقلوب امتلأت بالحب والصدق،فننسي كل شئ حتي أنفسنا ومخاوفنا،ولن يهم من أنت أو أين مكانك في الحياة،ستتوحد معها وبذلك التوحد ستقترب من ملايين عشاقها،وستهفو نفسك إلي الحب والوطنية والثقة في الأرض المصرية الطيبة،التي أنبتت أمثال أم كلثوم ونجيب محفوظ وطه حسين وثروت عكاشة ومحمود سعيد وعبد الوهاب وفاتن حمامة ويوسف شاهين ومئات الأسماء،تغدو بمثابة البدر الذي نفتقده في ظلماء عصرنا العطشان للثقافة الحقيقية والفن الحقيقي،ولكل واحد منهم محراب أتمني أن أقف أمامه لدقائق كما وقفت أنت وأنا لدقائق قليلة الآن أمام محراب أم كلثوم،دقائق نستعيد فيها إيماننا بإنسانيتنا ووطنيتنا وبلادنا العظيمة التي قدمت لنا أشجارا باسقة نستظل منها الآن من هجير الحياة.


 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق