الجمعة، 8 أكتوبر 2021

دمنهور...دمنهور

 

انطلقت فالنتينا من دمنهور الإيطالية إلي دمنهور المصرية،بصفتها المترجمة لتلك الرواية التي تدور حول المدينتين،وفي رأسها طوال ساعات السفر صورة الكاتب الوسيم الذي أعجبت بروايته فقررت أن تترجمها،حديثه معها علي الإنترنت لم يكفها،إنها تريد رؤيته وتريد أن يراها مباشرة لا من خلال الشاشات. إن هذا الرجل بئر من العواطف المردوم عليها بالصخور الصلدة والتراب،رومانسي إلي درجة يحتاجها العالم وأسلوبه به شفقة وتعاطف مع البشر،لما أنهت الرواية اعتقدت أنها وقعت في غرام هذا الساكن في دمنهور المصرية،الذي اتصل بمدينتها دمنهور الإيطالية ولامس أطرافها بقلمه المرتكز علي الضفة الأخري من البحر المتوسط، تحمست للعمل وبدأت علي الفور في ترجمة رواية" سور المدينة يتهاوي"بكت وفرحت مع جميلة وعامر بطلي الرواية،ولما أنهت الترجمة ونشرتها بدأ القراء يتساءلون حول المؤلف.

من يكون كمال مسعود القادر علي كشف الإنسان وتخليصه من زيفه وغروره ليعيده كما كان من جديد،مندهشا و صادقا،وعندما جاءتها الدعوة منه للذهاب إلي مصر لم تتردد لحظة،وإن ظلت مخاوف كورونا رابضة في عقلها،لقد أحكم الفيروس إغلاق المنافذ كلها،حتي وإن خفت قبضته فالانتقال في حد ذاته مايزال غير آمن.

 حزمت امتعتها في الموعد بعدما تغلبت علي المخاوف في عقلها،ومن ميناء الأسكندرية علي الشاطئ توغلت في الطريق الزراعي نحو دمنهور،اتصل بها كمال ليطمئن عليها فأخبرته بقرب وصولها:

 -يقول السائق أن أمامنا ربع ساعة لقد تخطينا مدينة أبو حمص. كمال كان في غاية الشوق لرؤيتها مجسدة أمامه،بعدما داعبت خياله لشهور وهي تحادثه بالعربية والإنجليزية وتتحرك أمامه علي الشاشة،لقد عاش معها أغلي الذكريات في حياته،لقد عرف معني الحب الذي طالما كتب عنه دون أن يجربه،وحبه ليست تلك العلاقات المبتذلة التافهة،بل حب الاكتفتاء كما يسميه وهو الاكتفاء بالمحبوب وحده عن كافة الأشياء في الدنيا،والتعرية النفسية بدون خجل أمامه كأنك تقول"هذا أنا بمساوئي وعلاتي...لتريني مساوئك وعلاتك ولن ينقص غرامي وحبي ذرة". أحيانا يري في عيني فالنتينا تلك النظرة المعجبة، وهو يتدفق بالحديث عن دانتي وأوفيد وبيرانديللو،والحب الشهواني في الديكاميرون ويقارنهم بالتراث العربي وبلمحات ذكية يربطهم سويا ليتمازج الشرق والغرب علي لسانه،عندها تعتريه رجفة تبدو في صوته ويرتحل في لحظة عبر عينيها صوب الخلود ويدير رأسه للعالم كله غير عابئ بشئ سواها. لما التقيا صارت كل إجراءات الوقاية أسطورة بعيدة حول مرض غامض أصاب البشرية،ثم تغلبت عليه واختفي،ألقت نفسها عليه وكادا يتعانقان ذاب الخوف من قلبها وحل محله أمل بهيج متجدد،بعد شهور من الكلام والمراسلة الإليكترونية هاهي بجانب من داعب أحلامها من جديد،واستنقذها من أشباح اليأس التي خلفها موت الآلاف في بلدها من جراء العدوي،كانت عزلتها هي أمتع أوقاتها،يتحدثان ليل نهار ويتشاركان لحظات ضاحكة أعادت لها ثقتها في المستقبل. شعر كمال بالخجل من اندفاعها نحوه وسط الناس أمام أحد الفنادق بجوار ترعة المحمودية،فتمتم: -حمدا لله علي سلامتك،إن الفنادق قليلة هنا ولكني اخترت لك أفضلها. أشار بيديه نحو الفندق من خلفهما عند المساء انتظرها كمال في بهو الفندق ريثما تستعد للخروج،برتدي بنطالا جديدا اشتراه لتلك المناسبة خصيصا وقميصا أهدته له أخته في عيد ميلاده الثامن بعد الثلاثين،داعية الله أن يلبسه هذا العام مع عروسه،وعندما طلت من فرجة الباب قفز من مكانه كأنه يستيقظ من حلم أو كأنه يراها لأول مرة،في الصباح كان مأخوذا وعلي الشاشة كان متوترا،أما الآن وهو يتأمل مشيتها الهادئة فقد رآها بعين قلبه،إنها الملاك المتنكر في الأساطير الإيطالية هل جاء دوره ليدخل من باب السلام إلي السعادة الابدية.

هل تأخرت؟

 -بل جئت في ميعادك بالتمام.

تجولا سيرا في شوارع المدينة ليريها أين عاشت شخصياته وكيف أثرت جغرافية دمنهور علي العلاقات بينهم،وكيف تاثر عامر بانهيار التعليم ونبذه للتخلف في المدارس والجامعات بعدما دنست بالجهل واستأثر بها الجهلاء،لتصبح مفرخة للعقول الفارغة والنفوس المتطرفة العمياء،وذلك كان دافعه للسفر لأوروبا،حيث يوجد تعليم حقيقي يمكنه الاستفادة منه،قد يشفي بعض جراحه المزمنة من سلخانات العقول التي طعنته في كبرياؤه الذهني ولوثته بأوحالها.

-لم أمكث هنا أكثر من ساعات ومع ذلك لا أشعر أني غريبة،هكذا شعر عامر حينما وطئ دمنهور الإيطالية،استغربت الأمر كثيرا لكنني الآن أفهم.

 استطردت وقد طالعته بوجه مبتسم:

 -لو رأينا البحر بمنظور إنساني،فنحن لسنا سوي سكان علي ضفاف بحيرة صغيرة جدا اسمها البحر المتوسط،تلك البحيرة توسطت لنا لنتقارب ونتبادل الثقافات منذ الأزل،لذلك تحت اختلاف الألوان والملامح والعقائد تنبض حضارة واحدة تجمع الشرق مع الغرب. -هذا بالتحديد ما أمكن عامر من التأقلم بسرعة،لقد عاش الإيطاليون في مصر كأنهم أهل البلد ولم يشعروا البتة أنهم غرباء كذلك اليونانيون كل ما في الأمر أنهم ارتحلوا من ضفة إلي أخري. وصلا إلي مطعم بجوار النادي،دلفا إلي الداخل وطلبا طعاما،دقائق وجاءت الباستا الإيطالية،مع أول ملعقة ضحك كمال من تعابير وجهها:

 -حسنا هذا هو أول اختلاف.

 -إنها طيبة،لكن هل هذه حقا باستا؟!

قال كمال بجد:

 -إنها فكرتنا عنها،لقد انصرفنا عن البحر للصحراء،فأصبحنا منعزلين عن أوروبا،نتبجح أننا نعرفها،والحقيقة أننا لم نعد نعرف حتي أنفسنا.

 ثم عاود المرح:

 -غدا بعد الندوة بدار الأوبرا، سأجعلك تتذوقين شيئا حقيقيا.

 عند حلول العصر، صعد كمال إلي غرفتها حاملا كيس ممتلئ بالحباش الدمنهوري،وكيس عيش بلدي ساخن:

 -إنها كالباستا في إيطاليا،أكلة خاصة بسكان مدينة دمنهور،مكونة من الطحين والطماطم والتوابل والبهارات،من محل أبي أقدم صنايعي حباش في دمنهور كما يحب تسمية نفسه.

 كانت الرائحة وحدها كفيلة لجعلها تلتهم الطبق.

 خرجا يتجولان بكارتة قديمة تتمايل بهما، يقودها سائق عجوز،بدت غريبة وسط سيل السيارات،طاف بها دمنهور القديمة بدء من حديقة الجمهورية إلي ٢٣يوليو وأبو الريش وصلاح الدين،أحياء شعبية قديمة مالت منازلها المتهالكة.

 -لقد نقل الرحالة الكثير ويسعدني أن أنقل وجبة الحباش،من دمنهور المصرية لدمنهور الإيطالية. أمسك كمال يدها فجفلت قليلا،ثم استكانت له:

 -هل يمكنني مشاركتك تلك الرحلة؟ أجابت بدلال:

 -ستعبر معي بحيرتنا المتوسطة؟ -علي زورق من الحب.

 -ماذا عن الموج والأعاصير؟

-سنجدف بإخلاص.

 

 -وأين سنرسو؟

-لا يهم ضفتي وضفتك واحدة ولو انعكست الاتجاهات. بعد عامين... كانا يجلسان علي شاطئ البحر،ثالثهما طفل يركض بينهما فرحا،يهتف في بهجة بثلاث كلمات...ماما...بابا...البحر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق