السبت، 16 أكتوبر 2021

الصين بعيون زانج ييمو

 

الصين بعيون زانج ييمو

 

بدأ شغفي بالسينما الصينية مع المخرج الكبير زانج ييمو,عندما شاهدت لأول في فيلم فترة عمر,لم أتمالك دموعي في المشهد الأخير وأنا أري جيزهان(جونج لي)وفوجي(جاي يو)وقد فقدا البنت والولد والثروة والمكانة,،لكنهما لم يفقدا حبهما لبعضهما ولم يعاديا الحياة،بل عاشا علي أمل يبثه لهما الحفيد الصغير،تعاطفت مع هذه الأسرة وآلامها كأنها أسرتي،كل فترة أشتاق لها وأعود لأشاهد التحفة الإنسانية التي أخرجها زانج ييمو عام ١٩٩٤،تهزني ضحكات نجمة السينما الصينية الكبيرة جونج لي ورفاقها أثناء العمل الشاق وهم يشاهدون مداعبات فوجي وابنه،ضحكات صافية مسروقة من الزمن والهموم والحرمان وبعدها قرأت الرواية المقتبس عنها الفيلم من تأليف الكاتب الصيني يو هوا،التي ترجمت إلي العربية بعنوان (علي قيد الحياة)،هكذا أحببت السينما الصينية،وتعرفت علي صاحب المتحف السينمائي زانج ييمو الذي عرض الصين علي الشاشة بشغف واحترافية فسحرنا بتلك الحضارة العريقة،التي تتشارك مع الحضارات العريقة الأخري في نقطة محورية،بأنها قد تعاني وتضطرب لكنها لا تتحطم أبدا،بل تظل باقية رغم الداء والأعداء تشهد علي التاريخ والزمن.

عندما فتح الثنائي السينمائي المتميز زانج ييمو وجونج لي عيني علي السينما الصينية،لم أتحول عنها،عشت معهما فترة الحرب العالمية الثانية،واحتلال الصين من قبل الجيش الياباني في أول أفلامهما(الذرة الحمراء)المأخوذ عن الملحمة الصينية التي سردها الأديب الحاصل علي نوبل مويان ونعرفها بالعربية باسم (الذرة الحمراء الرفيعة)،استمعت للراوي المجهول وهو يحكي عن جده وجدته،شاهدت احتفالات الأعراس وراقبت كيف يصنع العمال النبيذ من الذرة وهم يتغنون بمجد الصين،ولا أذكر أني رأيت الشمس مصبوغة بالدم عقب المعركة بهذه الصورة المنفرة التي جعلتني أشمئز من الحرب والعنف،اللذين تبغضهما الثقافة الصينية ولا تعترف بهما كحل للأزمات.

ودخلت معهما المصبغة في الدراما الشكسبيرية (جو دو)حيث السادية الممتزجة بالعجز الجنسي يمكنهما توليد جرائم شنيعة كالخيانة والقتل،وبعدها يجئ غناء الكورس لأغنية شعبية للأطفال في الصين،فأشعر إني انتقلت من الجو الدرامي الشكسبيري،لإحدي تجارب بيكيت أو يونيسكو العبثية.

 

ويستمر زانج ييمو في الاهتمام بقضية المرأة في الصين،فيخرج تحفة جديدة عن رواية سوتونغ"نساء ومحظيات" في نفس عام نشرها ويطلق عليها"ارفعو المصابيح الحمراء" تتلألأ بالألوان ليستحق فعلاً وصفه بـ"سيد الألوان"يصور من خلاله حياة مجموعة من النساء في الصين عندما كانت المحظيات أدوات لسعادة الرجل تدخل ضمن ممتلكاته،تأملت خلالها معمار المنازل الصينية التقليدية،وأنا أتابع المكائد والمؤامرات في بيت سيد البيت الذي نراه بالكاد،كأن زانج ييمو يعاقبه بالنفي المعنوي بينما تتصدر النساء الكادرات بكل أريحية.

وفي فيلم(قصة تشيو جو) لهثت في شوارع المدينة خلف البطلة الباحثة عن العدالة في سيناريو ينتمي لعالم الكوميديا السوداء،ووجدت أن حياة الفلاح الصيني مشابهة لدرجة كبيرة لواقع الفلاح المصري،كلاهما أبناء حضارة نهرية ساكنة هادئة،التجارب وحدها هي ما تنبههما لمدي تعقد العالم من حولهما.

ثم يجئ آخر تعاون بينهما عام ١٩٩٥ سيعقبه فترات انقطاع ،ليكون فيلم (ثلاثي شانغهاي)ختام تلك المرحلة الأولي من حياتهما،وهو يدور في صين الثلاثينيات بجو حافل بالاستعراضات والقتل والانتقام كما نراه من عين صبي كلف ليكون الخادم الشخصي لعشيقة رئيس العصابة،وذلك العام يكتب نهاية العلاقة العاطفية والفنية بين فنان السينما الكبير والممثلة الموهوبة،وكما لاحظ الناقد الأمريكي المخضرم روجر إيبرت بأن جونج لي يمكنها أن تؤدي الأدوار الرقيقة والكاريزمية بصورة مثالية،لكنها في هذا الفيلم تبدو غاضبة بشكل ما ويتساءل عما إذا كان غضبها بسبب مخرجها.

بعدها يجتمع زانج ييمو مع ٤٠مخرجاً من جنسيات مختلفة , بينهم المخرج المصري يوسف شاهين،في تحدِ سينمائي،حيث يطلب من كل واحد منهم تصوير فيلم لا يتعدي ٥٢ثانية،بالكاميرات التي اخترعها الأخوين لوميير،وكما قصد شاهين للأهرامات يتجه زانج ييمو لسور الصين العظيمة،لأن أبناء الحضارات الكبري في العالم لا يمكنهم الفكاك من جيناتهم التي تناديهم للأصول التي انبثقوا منها.

عند حلول الألفية يغزو هوليوود بفيلم البطل ٢٠٠٢ليتربع علي شباك التذاكر الأمريكية،بعدما كان الفيلم الأمريكي يغرق دور العرض الصينية،وينضم لجمهوره فئة جديدة من الشباب المعحبين أفلام الأكشن،يتعرض زانح ييمو للانتقاد لكونه تخلي عن القيمة الفنية لصالح الكسب المالي وستظل ذلك الانتقاد يلاحقه في أعماله التالية،لكني لم أجده تخلي عن فنه،بل دخل بموهبته الرفيعة ميدان جديد اسمه أفلام فنون القتال،صاغها علي منوال من رؤاه وأحاسيسه فجاء فيلم البطل للنجم الصيني جيت لي ذو الشعبية الجارفة في مصر،قصيدة بصرية جمع فيها عناصر الثقافة الصينية،انطلاقا من حادثة تاريخية لتعرض تشين شي هوانغ الذي سيصير موحد الصين وباني سورها العظيم،ومع توحيد البلاد سيوحد المقاييس والأوزان،لمحاولة اغتيال علي يد جينغ كي،نري فيها الماضي الصيني متجسد في الملابس والديكورات والشطرنج الصيني والموسيقي وبالطبع فن الخط،وفي خضم عالم من العنف الدموي المخضب بالألوان الجميلة،يطرح ييمو سؤالا عن ماهية البطل،هل هو الشخص الذي يحقق هدفه دون النظر إلي أي اعتبار،أم هو من يسبق عقله سيفه ويوازن الأمور ويختار الصواب حتي لو كان الثمن حياته،وفي نفس الوقت يعلي من قيمة القانون كالحاكم الحقيقي للجميع،فالملك المتردد في قتل البطل تجبره حاشيته علي ذلك عند تذكيره بنص القانون.

إذا كان فيلم البطل صراع ذهني بين وجهتي نظر في الأحداث،تذكر المشاهد علي الفور بفيلم راشمون للمخرج الياباني المذهل أكيرا كيروساوا،أحد المخرجين الذين يقدرهم زانج ييمو بشدة،فبيت الخناجر الطائرة صراع عاطفي،يدور في أواخر عهد سلالة تانج،بين ضابط يدين بالولاء للإمبراطور،و عضوة في جماعة متمردة احترفت القتل بالخناجر،هنا ذهبت للسهول وحقول البامبو،الشاهدة علي قصة الحب الملتهبة تابعتها بتشوق نفسي ومتعة بصرية لا تنسي،وامتلأ قلبي حناناً وشجناً مع أغنية النهاية الرومانسية الصادحة بالحب حتي والموت يستعلن, بصوت مغنية الأوبرا الأمريكية كاتلين باتل ولحن الموسيقار الياباني شيجيرو أومباياشي،وهكذا السينما تجمع كل الجنسيات والاعتقادات وتصهرها في بوتقة فنية واحدة،فيفني كل شئ ولا يبقي سوي القلب الإنساني العامر بالمشاعر،ليتطهر بالفنون ويخرج من جديد للعالم وقد استمد قوة جديدة.

تمر حوالي عشر سنوات منذ التعاون الأخير مع جونج لي،يشق كل منهما طريقه نحو العالمية،تصبح هي أشهر وجه سينمائي صيني،وهو في الصف الأول من مخرجي العالم،وبالنسبة لي افتقدتها بشدة،فهي مع زانج ييمو لهما طابع خاص يبرز خصوصية السينما الصينية وقدرتها علي منافسة كبري الدول في صناعة السينما،وفي لعنة الوردة الذهبية يجعلها ملكة علي الصين،والملك الفنان تشاو ين فات.

من المعروف عن تشاو ين فات تواضعه الشديد وزهده في متاع الدنيا الزائلة،يسعي للتخفف من أحمال الدنيا للوصول إلي الطاو ،وعندما أدي شخصية كونفوشيوس برع في التعبير بأداؤه عما يختلج حقا في قلبه من رغبة في إصلاح العالم،لكنه في هذا الفيلم وبنفس روعة الأداء يمثل امبراطورا قاسيا لا يعرف الرحمة،يتصارع مع الجميع حتي أفراد أسرته،وفي ليلة مهرجان الأقحوان الدامية يتساقطون من حوله،أما جونج لي فقدمت دورا ينتمي للسايكو دراما،تمور في نفسها الصراعات ويهتز كيانها كرد فعل علي اضطراب عالمها المتداعي، بالنسبة لمشاهد المعارك امتازت أبرزت شجاعة الجندي الصيني وصلابته في مواجهة الموت.

 مشوار طويل قطعه زانج ييمو،ومازال حتي اليوم وقد تخطي السبعين عاما يبدع ويبتكر أعمالا لا تنسي في عالم السينما شاركه فيها نجوما عالميين كزهور الحرب مع كريستيان بيل،ذلك الفيلم الإنساني المحفور في وجداني ليزيد إيماني بالإنسانية والحب والخير،وفيلم السور العظيم لمات ديمون،خليط من الفانتازيا والحركة،مضمونها التعاون العالمي،والإعلاء من شأن العلاقات الإنسانية في عالم مادي مزقه الطمع.

زانج ييمو فنان أحب الصين وعبر عن تاريخها وتراثها،فاختارته القيادة الصينية عام ٢٠٠٨ليخرج حفل افتتاح أولمبياد بكين،صنفته مجلة التايم وقتها كرجل العام...الفتي الذي اشتري أول كاميرا له بدمه حقيقة لا مجازا، ببييع دمه ليوفر المال،الذي خبر الحياة الصينية بالعمل في الحقول والمصانع أثناء الثورة الثقافية،أضحي بالموهبة والإصرار رجل العام ونجم الصين،والمرشد الذي اصطحبني ليعرفني علي وطنه،فسرت معه أميالا وقرونا علي الشاشة كانت من أمتع أوقات حياتي.

 عزيزي زانج ييمو،أنت لا تعرفني ولا أتخيل أن تقرأ في يوم ما كلماتي،لكن يكفي أني أعرفك،إني أهوي كتابة الأفلام وفي معظم الأوقات أشعر باليأس والحيرة والارتباك وأنا أبحث عن فكرة أو أتصور مشهدا،في أوقاتي المضطربة تلك أتذكرك ضمن موكب السينمائيين العظام منذ اختراع السينما فيلمع بريق الأمل في نفسي،... من مصر التي كرمتك في مهرجان القاهرة السينمائي عرفانا بفنك وإعجابا بفكرك وإدراكا لمكانتك في عالمنا... تحية محبة لك،وللسينما وللصين أو المملكة الوسطي الزاهرة،وستظل زاهرة علي الدوام بفنانيها وعلمائها،وأفلامها القادرة علي احتلال وجدان المشاهدين حول العالم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق