الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

لابد لأحدهم أن يسقط

 

لابد لأحدهم أن يسقط

مسرحية قصيرة من فصل واحد

المنظر:(بوابة قصر عملاقة مزينة برسوم ونقوش عن الصيد بالسهام, أمامها يقف أمير شاب قوي البنية طيب النظرات له شعر أسود فاحم, لكن ثيابه مهلهة وشكله متعب, يسير ذهاباً وإياباً أمام البوابة في صمت, ناظراً إلي النافذة العلوية, من الناحية اليمني يدخل شخصان علي وجهيهما الشراسة والغلظة, هما الشقيقان ضار وضرار,ويخوضان في حديث هامس.الوقت عصراً في أحد أيام الشتاء)

 

ضار: هل هذا هو الأمير الذي طرده والده الملك من قصره؟

ضرار: أجل.

ضار: يبدو أنه لن يشفق عليه ويعيده إلي الداخل.

ضرار: إن مليكنا صارم في أحكامه لا يعدل عنها أبداً.

ضار: منذ ثلاثة أشهر وهو علي هذه الحال لم يبرح البوابة, آملاً في عطف الملك...أنت محق يا أخي ضرار إنه متين البنية.

ضرار: إنه قوي كالثور, لكنه طيب القلب حسن النية يتعامل مع الحياة كطفل وليد, ولأول مرة يبرح القصر.

ضار: هل أنت متأكد أنه ضالتنا التي نرجوها؟!

ضرار: بالطبع...انتظر هاهنا(يذهب للأمير,ويوجه له حديثه بلهجة ناعمة)صباح الخير أيها السيد المهاب.

الأمير(متهللاً)صباح الخير يا صاحبي.

ضرار(يخرج كيس به طعام من جعبته):أحضرت لك اليوم طعام كثير, كل منه أيها الأمير كما تشاء.

الأمير(يتناوله من يده):شكراً لك يا ضرار لا أعرف كيف كنت لأحتمل الحياة بدونك!

ضرار: لا شكر علي واجب أيها الأمير, إنك ولي نعمتنا ويوماً ما سيفتح لك القصر.

الأمير(متنهداً): لا أظن ذلك, فأبي لا يلين.

ضرار: هل ستظل عندك إلي الأبد؟!

الأمير: وماذا سأفعل غير ذلك؟

ضرار: الحياة أمامك واسعة(تتغير لهجته الناعمة) وأنا لن أطعمك مجاناً بعد الآن! (الأمير ينظر له ولا يجيب,ضرار يشير إلي أخيه) هل تري ذلك الرجل الواقف هناك؟ إنه أخي ضار,ونحن نقوم ببعض الأعمال, ونحتاج إلي ثالث كي ننجز مهامنا في المستقبل بصورة أوسع...فهل تعمل معنا؟

الأمير(بصيحة فزع): وأفارق القصر؟!

ضرار: ستفارق القصر عاجلاً أو آجلاً,برضاك أو غصباً عنك, لن يمكنك الحياة هكذا طوال عمرك.

الأمير: ولكن...ماذا سأفعل معكما بالضبط؟

ضرار: لن تفعل شيئاً ستجئ معنا في مهامنا,تظهر بجسدك المتين هذا, ليخشي الناس بأسك, فإذا وجدتنا في عراك تتدخل لتناصرنا...فما رأيك؟

الأمير: أتقصد أعمل في البلطجة؟

ضرار: لا تستخدم ألفاظاً ضخمة لأعمال هينة.

الأمير: فماذا ستسمي مهنتي الجديدة إذن؟

ضرار: مساعدة صديق في وقت الشدة...أنت لا تدرك حقيقة العالم خلف أسوار القصر, ربما سمعت عنه لكنك لم جربه, لم تعرف العناء والكدح في سبيل لقمة تحفظ حياتك, وسقف يحميك من المطر, لا تعرف إهدار الكرامة خوفاً من الجوع والتشرد والسجن...ما دمت خرجت للحياة عليك أن تتلوث بها.

(المعلم يخرج من القصر, يتواري ضار وضرار ويراقبانهما من بعيد)

المعلم(متأثراً بحال الأمير ومظهره المحطم, يفتح له ذراعيه ويجري الأمير نحوه): أيتها الحياة, يالقسوة أنيابك السامة حين تنغرز في بدن المترفين, بعدما كسوتهم الذهب وأطعمتهم من شجر الجنان, آه يا ولدي الجميل, ليت تلك المغنية التي فرقت بينك وبين أبيك لم تر نور الحياة قط.

الأمير: كلا يا معلمي, بل يا ليتها دخلت القصر منذ زمن, إن الساعات التي قضيتها معها لأحلي من الشهد المصفي, إنها حبي الوحيد,وسأظل أحبها حتي الموت

المعلم: تلك الملعونة حرمها عليك والدك فأغوتك وأضاعتك.

الأمير: أنا من سعيت إليها, لقد تمنعت خوفاً علي من غضبة أبي, لكني لم أبال, عشقتها منذ رأيتها لأول مرة تخطو داخل القصر, وجه شبيه بالملائكة ممتلئ بالبراءة واللطف, وبشرة ناعمة بيضاء صافية, جعلتني أذوب, وعينان ساحرتان طافت بي نحو عالم بعيدة لم أدر يوماً بوجودها, وصوت أكثر طرباً من كل الآلات التي تترنم في الحفلات الملائكية, إنها بريئة لو كان هناك مذنباً فهو أنا.

المعلم: لا تزال هي السبب في كل ما جري لك, إنك لن تنجو في الخارج, لقد ربيتك علي منظومة من القيم لا تصلح للشارع وأهله, لم يخطر في بال أني سأراك يوماً مطروداً إليه, لو كنت أعرف مصيرك لما علمتك العلوم العقلية وهذبتك بالآداب الإنسانية, بل فنون المطاردة والهرب ومبارزة السوقة في الحانات وقاموس كلماتهم الشنيعة السافلة(يدق ناقوس داخل القصر, يرتاع المعلم) نداء الملك! لن يمكنني المكوث معك أكثر من ذلك, اذهب وسأعود إليك إذا استطعت...إن الملك خارج لا تدعه يراك.

(يدخل المعلم إلي القصر, يقف الأمير حائراً يظهر ضار وضرار يمسك كلاً منهما يد الأمير ويمضيان به خارجاً, يظهر الملك بعد لحظة, يمر الموكب عابراً المسرح حتي يختفي آخر فرد منه, يظهر الأمير وبصحبته ضار وضرار مرة أخري)

ضار: كاد الملك يلحظنا.

ضرار: إنه لحظنا بالفعل, لكنه لا يأبه لأحد منا ولا حتي لولده.

الأمير: لم يتعود أن يعصاه أحد, فلما صدرت المعصية مني, ثار وحطم كل ما طالته يده, اعتدي علي وطردني.

ضرار: ياله من أب ظالم, كل ذلك من أجل مغنية حسنة الصوت والصورة, المغنيات في هذه المدينة كثر, عمتي مثلاً مغنية في الأفراح, لكنها لا تسبب تلك المآسي, صحيح إنها سمينة نوعاً ما, وقبيحة أيضاً, ومع ذلك فهي الأخري مغنية.

ضار: إذن ماذا تقول أيها الأمير في عرضنا لك, هل تعمل معنا وتكسب قوتك, أم تحيا خائفاً جائعاً تحت ظلال القصر العامر بالخيرات,المحروس بجدران عالية لا سبيل لتجاوزها؟

الأمير:لا يمكنني فعل الشر.

ضرار: وعصيانك لأبيك ألم يكن شراً؟

الأمير:لا سلطان لي علي قلبي, لكن لي سلطان علي عقلي, والحب ليس شراً,إنما الشر يكمن في أذي الغير وتخويفه وابتزازه,وهذا ما أعتقد أنكما تفعلانه,وليس معني أحدهم تسبب لك في الأذي أن تنتقم من الجميع.

ضرار: لا تنس من ذلك أطعمتك.

الأمير(محزوناً):لو كنت أعرف ذلك ما سمحت لنفسي بمس طعامك أبداً.

ضرار:حسناً...قل لي كيف ستعيش؟

الأمير:لا شأن لك كيف سأعيش

(ضار ينظر لضرار يائساً)

ضرار(مغتاظاً): أريد ثمن ما ألقمته جوفك في الأيام الماضية.

الأمير(مضطرباً):ليس معي قرشاً واحداً.

ضرار(يفكر للحظة):اخلع قميصك.

(يخلع الأمير قميصه ويبقي عاري الجذع)

ضار(ساخراً):لتتدفأ في ليالي الشتاء الباردة بفضيلتك

ضرار(بسخرية أشد وهما يغادران المسرح):واصنع من حبك مائدة شهية التهمهما وحدك حين تجوع(يضحكان في خسة).

(يبقي الأمير وحيداً يشعر بالبرد, يسمع صوت المغنية تشدو بأحد الألحان داخل القصر,وتطل من النافذة,فتراه عارياً يرتجف).

المغنية: لهفي عليك يا أميري يا سيد قلبي ورجل حياتي, سأرمي لك بقميص يقيك من قرصة الصقيع, تغيب للحظة في الداخل ثم ترمي له قميصاً يلتقطه الأمير ويرتديه)

الأمير:كيف حالك يا جميلتي, كيف حال القصر عندك؟

المغنية:حالي عدم, والقصر ظلام من بعدك, لا تضيؤه كل قناديل العالم.

الأمير: وأبي الملك, أما يزال ناقماً عليك؟

المغنية:نقمته لا تعرف الخمود, بل تزداد, إنه يكلفني بأشد أعمال القصر صعوبة,قلبه لا يعرف الرحمة.

الأمير:علينا فعل شئ.

المغنية: وما الذي بأيدينا.

الأمير:الخلاص...اسمعي الملك خرج, هل يمكنك التدلي الآن من السور؟

المغنية: كيف؟

الأمير: اصنعي حبلاً.

المغنية:أخاف السقوط.

الأمير:عليك أن تختاري بين حياة الهوان أو العيش حرة في أحضاني.

المغنية: سأجدل حبلاً,وسأهبط في غفلة من الحراس...وبعدها ماذاسنفعل؟

الأمير:سنهرب بعيداً إلي مكان لا أسوار له.

المغنية:لقد عشت عمري بين الأسوار, من قصر إلي قصر, ومن ملك إلي ملك, لم أعرف البراح.

الأمير: لقد حان الوقت لتعرفي البراح..سنواجه شرور هذا العالم وسننجو...حتماً سننجو.

(تدخل المغنية من النافذة ويظهر المعلم)

المعلم: لقد سمعت كل شئ أيها الأمير,خطتك خطيرة سيجن الملك,وسيتعقبكما حتي يقتلكما بأشنع ميتة.

الأمير:لن يجدني.

المعلم: بل سيجدك إن في القصر فرساناً يقتصون أثر الصقر في السماء.

الأمير:لقد علمتني قيمة الحرية والآن تريد هدمها.

المعلم: قيمة الحياة أكثر أهمية.

الأمير:أتدري لم لم أبارح القصر حتي ذلك اليوم,انتظاراً لتلك الفرصة,لأخذ حقي في الحياة والفرار من وجه الظلم.

المعلم: كم أخشي عليكما, إني أوصيك فاسمع...احذر من الجميع ولا تجعل الارتياب الزائد يعكر عليك صفوك, أحب امرأتك ولا تنغمس في الحب فتغيب عن الحياة,اسع في الأرض ودر فيها,وليكن لك دوماً نقطة ارتكاز ثابتة كي لا تتوه.

الأمير: وصاياك غالية يا معلمي.

(تفتح البوابة و تخرج المغنية من القصر ركضاً)

المغنية: نجحنا.

الأمير: ليس بعد ما يزال الطريق طويلاً.

المعلم:الوداع يا ولدي...الوداع(يعود إلي القصر ويغلق الباب).

(يخرج الأمير والمغنية من خشبة المسرح,يظهر ضار وضرار من جديد)

ضار:لقد ذهب الأمير

ضرار: إن للملك أولاداً كثر,لابد أن يخرج واحد منهم في يوم ما, إن كنا أفلتنا هذا فلن نفلت من يله.

ضار:وهل سيستغرق القادم وقتاً طويلاً.

ضرار:مهما طال الزمن,فسيسقط أحدهم,هذا قانون الحياة...لابد لأحدهم أن يسقط

ستار


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق