الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

الركض بين الشاطئ والأسفلت

 


تضرب الأمواج الرمال بقسوة ظاهرة أم بحنان متوار بين ذرات الماء؟هل تقود الموجة رغبة في احتضان البر أم تنتقم لطردها كل مرة تحاول تقبيل اليابسة...والزبد الأبيض ليس سوي دمعة سفكتها من حرارة الشوق وألم الحرمان؟...ذلك شئ لن نعرفه قط.

-لا تبتعدي كثيراً.

قالت الجدة العجوز ساكنة الكوخ الخشبي الضيق,ذات التجاعيد المنقوشة علي الجلد...صفعة السنون للأنسجة التي تألقت شباباَ يوماً ما تحت الشمس.

ركضت الطفلة خلف القطة المشمشية,بين الشاليهات المستأجرة,كحياة الإنسان التي يؤجرها من الزمن,ونسيم البحر يتراقص مع خصلات شعرها السوداء,وقفت القطة للحظة واستدارت برأسها,رأت الطفلة قادمة من بعيد ما تزال تلاحقها,هزت ذيلها وتأملت المرأة الواقفة في الشرفة تقزقز اللب وتقذف القشر علي عشب الحديقة اليانع, ثم عادت تركض من جديد.

تعثرت الطفلة في بلاطة مكسورة علي الممشي فوقعت وارتطم رأسها بالشجيرات القاسية مدببة الأطراف التي تسور الحديقة.

في نفس اللحظة قالت المرأة وهي تمسح فمها:

-لا تنس يا شريف أن تحضر معك بيتزا عائلية,لأن الأولاد جوعي منذ رجوعهم من الشاطئ.

وعادت تقزقز اللب.

وضع شريف قدميه في الشبشب ,وارتدي قبعة السياح مفلطحة الأطراف علي رأسه الصلعاء,وصاح كي تسمعه:

-يوجد عرض ثلاثة بثمن اثنين.

ردت المرأة:

-انتهز الفرصة يا شريف,هات ثلاثة وادفع ثمن اثنين...الله يرحمك يا أمي,كانت تقول دوماً"الحياة فرص",صحيح أنها لم تعرف البيتزا ولم تذهب للشاطئ في حياتها,كلنها كانت تعرف الفرص وتوفر لنا,وكان أبي يمتدحها أمام الغريب والقريب.

هرشت ذراعيها بأظافرها وأكملت:

-...رحمك الله يا أبي علمتنا كيف معني القرش,لم يكن بخيلاً لكنه كان واعياً يصرف في المكان الصحيح...

أراد شريف أن يقول:لقد صرفنا في المصيف آلاف الجنيهات منذ جئنا فهل ستفرق مائتي جنيه؟!

لكنه لم يقل شيئاً,وتركها تستعيد الذكريات الحقيقية منها والمتوهمة,وفتح الباب,وهبط السلالم وسار علي طريق الأسفلت حتي اختفي.

قامت الطفلة وركبتيها تؤلمانها,وقد جرحت جبينها فظهرت قطرة دم سرعان ما تضخمت,وجرت عائدة نحو كوخ جدتها المسئولة عن تأجير الشاليهات للمُلاك.

مسحت الجدة القطرة التي أصبحت قطرات,والطفلة تبكي وقد رقدت علي كرسي بلاستيكي أبيض التهم جسدها الضئيل,كأنه مغارة فتحت فمها والطفلة مرمية بداخلها,غلبها النوم وبدت كدمية صغيرة لو ضغطت علي بطنها ستغني مصدرة تلك الأصوات المزعجة الحادة.

جلست الجدة تعد الأوراق المالية التي جمعتها اليوم,وهي تفكر فيما ستفعله عقب انتهاء موسم الصيف,ستعود الطفلة إلي أبيها وزوجته الحاقدة,وستصبح وحيدة تماماً لا يؤنسها سوي ذكري ابنتها المرحومة من الحياة بالسرطان الذي مرح في جسدها حتي أحالها لصورة باهتة,قبل أن يمحوها تماماً...ارتطمت كرة في الباب الخشبي ففزعت ولمحت من الداخل صبيان يهرولان نحوها ويلتقطاها ويتقاذفانها بين أرجلهم وأقدامهم.

فتحت الطفلة عينيها ورأت القطة علي العتبة تنظر في فضول واغراء ,فانسلت في هدوء وبدأت تركض من جديد خلف القطة وداست علي قشر اللب الذي يغطي العشب بحذائها الأبيض,وفي اندفاعها تعثرت بشريف وسقطت ثلاث دوائر من العجين علي سطحها الخضروات واللحوم,وقف شريف والطفلة والقطة ينظرون إلي الأسفلت الملطخ في دهشة ووجل,هز كتفيه باستهزاء وضحك ضحكة مجنونة وطفق يضحك حتي هلعت الطفلة من منظره.

ركضت الطفلة خائفة نحو كوخ جدتها,دخلت وتجولت بعينيها في زواياه المظلمة,لمحت الجدة راقدة علي الأرض وبين يديها النقود,هزتها برفق أولاً ثم بعنف ولم تفق الجدة,وقفت جامدة أمام جسدها المنطرح علي الأرض في سكون مخيف,ومن خلفها دخلت القطة في صمت,انتصب حسدها أمام الجسد الملقي علي الأرض,وجاست في الكوخ وخرجت تتقافز إلي الشاطئ,وهذه المرة لم تركض الطفلة خلفها بل أخذت تبكي في الداخل دون أن يشعر بها أحد,وفي الخارج كان الموج في صراعه الأبدي مع الشاطئ,والسيارات تنطلق مسرعة علي الأسفلت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق