الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

اللوحة البيضاء

 

اللوحة البيضاء

وقف في الشرفة يتآكله القلق ويحس بثقل الانتظار يلهب أعصابه ويكبت شوقه, من وقت الحادثة التي تسببت في كسر يده اليمني لم تخالجه تلك اللهفة علي شئ, لكن منذ رأي صورتها مصادفة علي الإنترنت و هو يحاول إقناعها بالمجئ إلي منزله, إنها الموديل التي عاش عمره يحلم بها, تتراءي له في اليقظة والمنام,هي القادرة علي جعل يده تغرد بالفرشاة من جديد علي أفق اللوحة الأبيض, بعد شهور طويلة من الخرس الكلي, لم تتخشب فيها يده فحسب بل هجم الجمود والبلادة إلي روحه أيضاً, فلم يعد يحفزه منظر جميل أو توحي له نفسه بخلق فني جديد,فقط الفراغ المحيي للذكريات القديمة الأليمة, والصباحات المتشابهة تتبعها أمسيات كئيبة يشعر فيها بخدر قوي يسري في أوصاله ورغبة عارمة في البكاء, بالإضافة للوسواس القهري الذي يحيل لياليه لسواد أحلك مما هوعليه في الواقع, مطلقاً عنان الرغبات اللامعقولة والأفكار المعذبة التي تضعضع الارتكاز النفسي, انطفأت كل القناديل المضيئة في حياته وغابت النجوم الهادية تحت غلالة داكنة من الهموم والاضطراب, وترك في العتمة يصارع الأوهام والأشباح وحيداً أعزلاً يشعر بالضعة والهوان أمام نفسه بعدما توقف عن إنتاج الشئ الوحيد الذي كان يمنح لوجوده قيمة ما, الرسم الذي جعله معروفاً في الأوساط الفنية, ألم تغط الصحف أنباء أحد معارضه منذ سنوات وقبيل الحادث نشر له العديد من الحوارات عبر فيها عن رؤيته للفن والحياة, ولاقت صدي واسعاً لدي المهتمين بالفن التشكيلي, ولمع اسمه في المنتديات, وانضم اسمه لموسوعة ويكيبيديا"أحمد مُنجي"مع قائمة بأعماله والجوائز التي حصل عليها.

وفي عز اقبال الدنيا عليه انقلبت سيارته علي الطريق السريع, أثناء عودته من أجازة الصيف مُحملاً بالرؤي والطموحات الكبري, تملؤه الآمال ويبتسم باطنه للمستقبل الذي يتمخض عن وعود المجد والترقي, لحظة واحدة بدلت كل الخطط, انفصل عن الدنيا بعدها, ولما فتح جفنيه الثقيلين كأنهما اكتسيا بغطاء غليظ من الرصاص وجد نفسه راقداً علي أحد الأسرة البيضاء, عاجز عن تحريك اصبعاً واحداً, حين استعاد بعض وعيه همست له الممرضة السمراء النحيلة ذات الوجه الطفولي:

- أنجاك الله من موت محقق, إن معجزة كتلك لا أراها كل يوم.

احتاج لدقائق كي يستوعب الأمر, في معياره الزمني مرت ساعات معدودة منذ كان في سيارته يستمع لنغمات فرانز ليست علي البيانو, ويتخيل لوحته الجديدة, التي ستمتلئ بفيض روحي جياش, سيظهر في مزيج الألون والزوايا, وخاصة في حركة الطيور المحلقة فوق البحر متلاطم الأمواج, وعلي سطحه يحوم الزبد الأبيض رافضاً أن يتسامي علي الماء أو يسقط عند قاعه, سيظل عالقاً فيه للأبد,وحوله الحركة في كل مكان, وها هي الممرضة تخبره بعدها أنه كان علي وشك الموت, وما مزق قلبه حقاً سوي رؤية يده اليمني حتي الكتف مقيدة في الجبس, فاق فزعه لكسر قدميه منظر يده المحطم, وسالت دمعتين ساخنتين علي خده, غسلا ألوان اللوحة فما عاد الزبد أبيضاً ولا البحر باللون الأزرق, أما الطيور فأصبحت بلا أجنحة وسالت رأسها نازفة,وحدها العتمة احتلت وجدانه.

لما رآها انبعثت في روحه النشوة القديمة, عرف أنها الأخري فنانة تشكيلية لم تصب النجاح في عالم الفن, بعث لها بالرسائل وكلمها علي الهاتف يلح عليها لتكون هي الموديل للوحة التي يعتزم العمل عليها, في البداية عارضت فهي لا تريد أن تكون الموديل بل الصانعة, ولما عرفت من أصدقائها بالحادثة وتهشم يده واكتئابه وحيداً في عزلته لانت في النهاية وقبلت.

أشعل سيجارة خامسة وهو يتململ خلف السور, يغيم عقله في الأحلام ثم يفيق علي ضجيج الشارع, كان ميدان عابدين مكتظاً بالسيارات والمارة, رآها من بعيد تخطو بجوار القصر فزاد ارتباكه, إن جمالها حقيقي فعلاً, لم تزينه الكاميرات ولا خدعته الصور, كلما اقتربت علا وجيب قلبه كمراهق ينتظر حبيبته خلف سور المدرسة, وليس رجلاً اكتهل وتجاوز الخامسة والثلاثين, عبرت حديقة القصر واقتربت من المنزل, تتلفت حولها تتفحص الشرفات فرأته يلوح لها كي تستدل علي المنزل بالضبط, رأت بيتاً بني عندما كان الناس يعرفون فن العمارة والبناء, يمتاز بالقدم والعتاقة وتشيع حوله روح فنان صممه ونفذه, وراق لها تماثيل الملائكة المحفورة في الواجهة تمثل ثلاثة منهم ينظرون للسماء في ضراعة صامتة كأنهم يدعونها لترحم أهل الأرض, وكتب تحتها "errare humanum est" عبارة لاتينية تعني "كل ابن آدم خطاء", اقتربت من الباب الخشبي الضخم المزخرف بنقوش دقيقة, ولاح لها المعني الحقيقي للبيوت, ليس ذلك المكان المخصص للنوم والأكل بل هو ذلك الإحساس بالانتماء, المكان الذي يخاطب فيك الوجدان فيضيف لأيامك معني, صعدت السلالم الرخامية فوجدته واقفاً علي عتبة باب الشقة المفتوح, ابتسم لها في لهفة:

- نسرين!...تفضلي أشكرك علي الحضور.

مد لها يده ,فتلقتها بين أصابعها,وجذبها برفق إلي الصالون, جاست عينيها في الشقة من الداخل, فوجدتها كما توقعت فوضوية إلي أقصي حد, تليق بأحمد منجي البوهيمي الكبير, ذو الشخصية المتحررة كما ظهر في لوحاته التي تأثرت بها كثيراً وأعجبتها, دعاها للجلوس علي الأريكة وغاب في الداخل لدقيقة, وعاد حاملاً صينية نحاسية عليها كوبين من عصير البرتقال.

وضع الصينية علي الطاولة وقدم لها أحد الكوبين معتذراً:

- اعذريني علي حال الشقة, إني لست في أحسن أحوالي.

قبضت علي الكوب, وهي تبتسم شاكرة:

- لا تهتم, إنها تحتاج للمسة أنثوية لتغدو في غاية الأناقة.

تأمل عينيها الزرقاوتين, متذكراً البحر ذي الأمواج :

- أشكرك علي المجئ وتلبية دعوتي للمرة الثانية.

ثم نظر إلي يديه المرتعشتين لحظة غاب فيها عن الوجود, ثم أكمل وهو يخفيها خلفه:

-إن اللوحة كما أتخيلها ستصير حديث الساعة في المنتديات الفنية, وأنا متأكد أنك لن تندمي علي حضورك هنا, حين ترينها حقيقة انتقلت من خيالي لعالمنا, كما أخبرتك إنك الوحيدة القادرة علي جعل هذه اليد تتحرر من قيودها, لقد انحل الجبس الطبي ومع ذلك مازلت أشعر به يخنق يدي.

ترددت الكلمات علي شفتيها لكنها قالت أخيراً وعينيها تشعان عطفاً صادقاً:

-أستاذ أحمد... لا تفهمني بصورة خاطئة...  منذ الحادثة وأنت لا تستطيع التحكم كلياً في يدك كلياً,لا أريدك أن تفعم قلبك بالآمال حتي لا ينكسر بعد ذلك, لنعتبر الأمر تمرين علي الأقل في البداية.

تمتم وفي صوته رنة خزي:

- طبعاً... إن الثوب في الداخل أتمني أن يعجبك, يمكنك الدخول وارتدائه إذا أردتِ.

قامت فرأي قدها الرشيق كله يتحرك, أشار لها ناحية الغرفة, وراقبها وهي تتمايل أمامه حتي غابت عن عينيه, وسمع تكة قفل الباب تصك أذنيه, وبدأ يجول في الحجرة مهتاجاً, أي شيطان صور له تلك الفكرة, بالتأكيد رأت يديه تهتز, إنها تشفق عليه لا أكثر "الرسام الذي تحطمت أصابعه...ياحرام" بعد فترة وجيزة عادت كأنها خرجت من لوحته المتخيلة, تتهادي في ثوب أرجواني عاري الذراعين, مفتوح عند الركبة, واستلقت أمامه علي الأريكة توجه له نظرات غامضة بعيون ناعسة, وقف لثوان يحاول ضبط رعشته المتزايدة, حمل الفرشاة ببطء شديد, كاد أن يلمس قماش اللوحة, لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة, طال الوقت وهو لا يجسر علي مس اللوحة, ستظهر خطوطه متعرجة ساذجة كطفل صغير يلهو علي ورقة, وستسخر منه بلا هوادة, لو كانت ظهرت مبكراً في حياته لرسم ما يأسر خياله بسهولة كسابق عهده ولأبهرها بإمكانياته, لو رآها قبل الحادث لأصبحت بطلة ملهمة لدرة أعماله... اجتاحته موجة الشعور بالهوان من جديد, وسرت قشعريرة في ظهره,وهيأت الأوهام له أنها ستقوم تصفعه وهي تصرخ:

-إذا كنت عاجزاً عن مس اللوحة, فلماذا ألححت علي ترجوني المجئ إليك, هل أنت أحمق؟

تنبه علي صوتها الدافئ:

- أحمد... هل هناك مشكلة ما؟!

أشرق وجهها بنور ضحكتها:

-هل يمكنني مناداتك أحمد؟

- بالتأكيد كما يحلو لك...لا تقلقي فقط اثبتي ولا تتحركي.

مضت الدقائق والصمت يخيم عليهما, وفجأة تهاوي علي المقعد دافناً وجهه بين يديه في يأس حاد, خصلات شعره الثائرة تشي بما يحمله ذلك الرأس من أفكار مشتعلة, لمعت عيناها في فضول شديد وقامت من علي الأريكة وجلست في الكرسي المجاور له, أشعلت سيجارة ومالت برأسها للخلف تسند رأسها بيدها, وعطر الجاذبية يفوح منها, وقد رسم القميص منحنيات جسدها, و زاد شعرها المنسدل علي مسند المقعد سحرها الفتان, سمعها ضحكتها الرقيقة وأردفت:

-أتدري... إن جلستنا تلك في حاجة لمن يرسمها.

أخفض كفيه وابتسم بمرارة:

- ستكون لوحة مدهشة.

- مارأيك لو نرسمها معاً؟

ألقي عليها نظرة بعيون ذابلة.

-أجل نرسمها سوياً سأمسك يدك أنسيت أنني الأخري فنانة, وسأمتثل لكافة تعليماتك...أيوجد هنا مرآة؟

حملا سوياً المرآة ووضعاها أمام الأريكة, وعادا لوضعيهما السابق, يشهدان صورتيهما في المرآة, حتي ملأت كيانهما, ثبتت نظراته علي المشهد المنعكس أمامه وعلق أخيراً:

- موافق... ولم لا؟

وقفت خلفه تمسك يده المرتعشة وقد غزا قلبها حنان جارف تجاهه, اعتبرته وليدها الصغير المحتاج للتشجيع والأمان, وطفت السعادة علي روحها لأول مرة بعد سنوات طويلة من الأحزان, لإحساسها بمساعدة إنسان دون انتظار لمقابل من أي نوع, استدار لها فرأي نظرة مشجعة ممتزجة بابتسامة حنون وبرفق مسا اللوحة وهمس بصوت بالكاد مسموع من فرط تهدج أنفاسه:

- سنبدأ بك أنتِ.

ربتت علي كتفه بامتنان, مضت ساعتان كانت في معظمها بالكاد تلمسه, بينما استغرق تماماً في العمل,لم تثبت يديه بعد, علي الأقل كان قادراً علي الاتزان بصورة معقولة, فوق اللون الأبيض الذي التهم كل تركيزه, طالما شكل له اللون الأبيض عداوة دائمة, فالفنان لا يؤلمه سوي ذلك اللون وقد فارقته الخطوط والألوان, يواجه اللوحة بغيظ مرة, وباستسلام مرة, وبتوهج جارف مرة أخري... وهكذا,دوماً يفجر اللون الأبيض بداخله مشاعر مختلفة تنتهي بسعادة الانتصار عليه, لا يهم إذا ما كان العمل جيداً أو سيئاً مادام البياض تناثر وتشبع بألوان أخري... مرت الساعتان وهو لا يشعر بنفسه, ولما انتهي من تصوير وجهها, عاوده الإحساس بالزمان والمكان, واندهش حين أدرك أنها الآن تقف خلفه فحسب لا تساعده في شئ, انزاح خلالهما من تفكيره المجهد كل الشياطين السوداء التي ظلت تتلاعب به في شهور وحدته وانكساره, وسري صفاء غريب في روحه, التفت ناحيتها فوجدها ترمقه في صمت بمودة رائقة, مسحت عن ذهنه التشرد الفكري في غيابات أرض اليأس والضياع وعلت ضحكته المجلجة:

- نسرين! إنني أولد من جديد.

اتجهت نحو صورة وجهها المرسوم بيده, ومالت عليها وصوتها يحمل توقداً لا تعرف من أين خرج:

- عظيم, لكنني لن أعترف بالنجاح سوي إلا بعد انتهاء اللوحة.

تبدلت الصباحات المملة والمساءات الكئيبة, وتوقف استجلاب النوم عن إرهاقه وتقليب المواجع عليه حتي يبتلعه وحش الظلام في جوفه ويطلق عليه كوابيسه المروعة, امتلأت حياته بهدف سخر له كل طاقته, تكررت الزيارات لأيام عديدة, استعاد فيها ثقته بنفسه وبإمكانياته الإبداعية, صحيح أنها فرضت رؤيتها الفنية في أكثر من موضع ,وذلك ما زاد الصورة جمالاً وألقاً,ويكفيه أنه بات يسيطر الآن علي حركة يده, العائق النفسي تلاشي بعدما كان يراها في أغلال برومثيوس تتلوي طلباً للحرية.

توثق بينهما رابط شعوري متين, كلما تقدم العمل انكشفا لبعضهما, غيرت نسرين من تصميم الشقة, وحافظت علي اتساقها ونظافتها طوال فترة وجودها, وفي أحد الأيام دخلت حاملة أصائص زرعت فيها زهور ملونة وحملتها للشرفة منبهة:

- حافظ عليها جيداً لو أردت لها الحياة, إنها تحتاج للاهتمام والرعاية, النباتات لها مشاعر وأحاسيس...إنها حقيقة علمية.

أجاب وهو يعجل وضع الأصيص الأوسط:

- في رأيي أن كل ما علي الأرض له مشاعر وأحاسيس وتلك حقيقة تخصني وحدي, أحياناً أشفق علي كافة الموجودات في الكون, يخيل لي أن للجماد روح كامنة فيه, تلك السيارة القديمة الواقفة أسفل البيت مثلاً, تمتلك تاريخاً حافلاً, بالتأكيد أحبت راكباً وأعطته من ذاتها, واشمأزت من آخر وحرمته من الارتياح فيها, والطاولة في الداخل, ورثتها عن أبي الذي ورثها بدوره عن أبيه, لابد أنها شهدت أياماً حافلة لأسرتنا منها المجيد السعيد, ومنها الوضيع البائس, في الماضي عرفت الشباب والفتوة, والآن يبدو عليها علامات الشيخوخة, تآكلت وتهالكت كأنها سئمت الحياة وأحوالها المتقلبة...هل تظنينني معتوهاً؟!

- أبداً... من معرفتي بك أري أنك تحمل روحاً أكبر وأكثر حساسية مما تحتمل الحياة, بل ومما تحتمله أنت نفسك ,وذلك سبب آلامك وقلقك المرضي الذي يكبلك, تتقبل أن تذوب فيك الحياة, وفي نفس الوقت ترفض أن تذوب فيها أنت أو علي الأقل تتقبلها, خوفاً منها ورعباً من الصدمات التي تنتظرها منها.

- بالضبط... إنني أعشقها مادمت بعيداً عنها, تعزف داخلي سيمفونية توائم روحية مع أشقائي البشر, أحبابي الذين يثيرون عطفي ومصائبهم تبكيني في الحروب والفقر والجوع, أتمني لو تفتت قلبي لميارات الأجزاء أهدي لكل واحد منهم جزءً, لعله يهبه السلوي في دربه الوعر الشاق, فإذا نزلت إلي الشارع واحتككت بهم ورأيت ما يفعلونه لبعضهم, وشهدت الغش والخداع والظلم المحيق بهم بأيدي بعضهم, لعنتهم أجمعين وعدت إلي بيتي ألملم ذاتي المنهوكة وأسقط علي سريري والأرض تميد بي.

تراجعت إلي الداخل وهي تختتم الموضوع:

-علي كل نفوس الفنانين الحقيقين غاية في التعقيد وآرائهم في الحياة استثنائية.

مع انكشاف صورتها علي القماش, كشفت له مكنونها بالكلام الصادر من القلب, دون خوف من الأحكام, غير عابئة بتزيين صورتها, فالكل حين يحكي يحكي عن صورة ذاتية متخيلة يحلم أن يري نفسه عليها ,لا أحد يعترف بالحقيقة, الكل يعلن المميزات الحقيقية منها والمخترعة, ويخفي العيوب والمشكلات, وليس حقيقة الإنسان ما يعلنه ويتفاخر به,بل  ما يخفيه ويسعي لخنقه ويحجبه بأسوار الصمت والإنكار ,حدثته عن زوجها الأول, وكيف كان يعتدي عليها باسم الحق الشرعي للزوج:

- تربي علي أن العنف والإساءة للآخر وخاصة المرأة من علامات الرجولة, غير واع أن الرجولة تختلف عن الذكورة, أعرف في حياتي نساء يتحلين بكافة صفات الرجولة الحقة, كالأمانة وتحمل المسئولية والصدق والصبر والقدرة علي المواجهة وعدم الهرب تحت أي ظرف, أما الذكورة فمرتبطة بعضو لا حيلة للإنسان في وجوده أو عدمه, فهو لم يختره...كم أمقت من يتفاخر بشئ لم يكن له فيه حق الاختيار, ولد فوجد نفسه علي ذلك الحال, وأنا أيضاً لم أكن في الواقع زوجة مثالية, لا أدري هل بسبب ذلك أم نتيجة لذلك, تمنعت عنه كثيراً وهو في عنفوان شهوته, كنت أتقزز من ملامحه الحيوانية حين يسثار, قبلاته بالنسبة لي أنياب تنغرس في جسدي,  كان الحال مختلف أيام خطوبتنا, لقد خدعني بالكلام, وما أسهل الكذب والتزييف! رسم لنفسه صورة مغايرة تماماً عما اكتشفته بعد ذلك في العشرة, وصدقت المثل السائر أن العشرة هي دليل المعرفة, والتجربة خير من السماع, ذقت في العامين اللذين قضيتهما معه أبشع أوقات في حياتي, وفي النهاية انفصلت عن ذلك السافل, خلعته كما أخلع حذائي بعد يوم شاق, ملقية به في ركن الحجرة وقد تحررت أخيراً من الألم الممض الذي يضنيني...أبي كان عكس ذلك الرجل تماماً, عهدته عطوفاً علي أمي يساندها وتسانده في مطبات الحياة, وهما الآن كل حياتي لا أتخيل نفسي أعيش بدونهما, حين أعود للمنزل تستقبلني قطتي كاتيا تتقافز في مرح عند رؤيتي ,تحاول أن تتسلق ساقي, معبرة عن شوقها لي,تلك القطة تعوضني بطريقة ما عن الأمومة المفقودة, المرأة حين تحرم من الإنجاب, أن يكون لها طفل خاص بها يخرج من بين أحشائها للحياة يكون مسئولاً منها, يمكنها أن تتبني أي مخلوق بنفس راضية ولو كان فرانكشتاين نفسه الذي نفرت منه كل الناس, مرت علي فترة كان ثدياي يفيضان تلقائياً كلما رأيت طفلاً, معلنان عن أمومة مكبوتة...وبصورة ما أمارس تلك الأمومة معك, إنك طفل في ثياب رجل ناضج تحتاج إلي العناية الكاملة ,وقد كنت طفلاً وحيداً لوالديك أي أنك عرفت من الرفاهية والراحة ما أخر نموك الاجتماعي والنفسي.

ضحك مداعباً ليزيل حالة الشجن التي اعترتها:

- لست طفلاً تماماً...علي الأقل أدخل الحمام لوحدي دون الحاجة إليكِ.

اهتزت ضاحكة وأشارت له مهددة بسبابتها في حركة مسرحية:

- طيب...اعمل الآن بجد أيها الطفل الكبير بجد وإلا حرمتك من لعب البلايستيشن والخروج مع أصدقائك.

قرب انتهاء اللوحة شعرا أنهما لن يقويا علي العيش منفردين بعد الآن, وقرر التقدم لخطبتها.

عقب وفاة والديه بقي وحيداً دون أقارب, مع اشتعال معركة الميراث بينه وبين عمه وأولاده الذين استولوا علي أربعة محلات في وسط البلد, كان أبوه يتشاركها مع شقيقه, وعاونهم المتزلفون من عائلته طمعاً في خيرات العم الثري, فانقطعت روابطه مع عائلته حتي أنه نسي وجووههم, لو قابلهم في الشارع مصادفة فلن يعرفهم, لجأ إلي صديقته الشاعرة الشهيرة منيرة عبد الكريم لترافقه لمنزل نسرين لطلب يدها, وقد حددت الأسرة الموعد في ليلة خريفية تكاثفت فيها السحب فوق القاهرة.

استأحر سيارة,ولأول مرة بعد الحادث يجلس خلف عجلة قيادة, في اللحظات الأولي كادت تعاوده الرعشة, فتذكر انتظار نسيرين له فطارت الرعشة وحملتها الرياح الباردة إلي كهف مهجور شق في قلب جبل أصم, وأغلقت عليها صخرة هائلة للأبد, استعاد صلابته وسار في الشوارع المزدانة بالأضواء الكثيفة, حتي وصل أمام فيللا منيرة, وجدها أمام الباب في انتظاره أنيقة للغاية كما تعود أن يراها, كلما ازداد عمرها ازدادت براءتها, احتفلت في العام الماضي بعيد ميلادها الخمسين في حفل بسيط بإحدي الجاليريهات الشغوفة بها كواحدة من رعاة الفن التشكيلي في مصر, أنفقت من ثروتها علي الفنانيين ,تبتاع لوحات من تؤمن بهم بمبالغ باهظة تفوق قيمتها الحقيقية, ولو كانوا مغمورين في بداية طريقهم, كي يقدروا أنفسهم ويقبلوا علي الإنتاج الفني بحماس, لا ينسي أنها دعمته في أولي تجاربته ودفعته بتشجيعها وعلاقاتها للمكانة التي وصل إليها اليوم, جمعت في الحفل شباب المبدعين من شعراء وفنانين وأدباء وصناع سينما, بعض الحضور ما يزال في سن الخامسة عشر تصادقهم وتنفخ فيهم من روحها بتشجيعها الدائم الغير قابل للنضوب, فتيات وفتيان يتحلقن حولها في محبة, تلوح عليهم أمارات النجابة متعلقون بها بشدة, ذكرته لحظتها بربات الخصب والنماء في الحضارات القديمة, إنها الأنثي التي تلد الحب والاستقرار في القلوب,فتبادلها القلوب محبة واحتراماً, والاحترام عملة نادرة اليوم بعدما أطاح النفاق بكل المعاني الراقية, إلا أنها من القلائل الذين عرفهم في حياته تستحق الاحترام.

رأته فركضت نحوه تثب في سعادة وضحكتها الصادقة تشع بهاء في وجهها المستدير الطيب, قبلته علي وجنته وسمع رنين السعادة في صوتها:

- مبروك يا أحمد...راودني الخوف مؤخراً عليك, خشيت أنك ستقضي حياتك أعزباً وحيداً...العمر يجري بك ولم أرد أن تصاب بالندم بعد فوات الأوان, فمن يحيا وحيداً يموت وليس بجواره أحد يؤنسه.

عرجا علي محل حلويات فاختارت تشكيلة خاصة ذات أسماء غريبة, لم يهتم بذلك, مادامت منيرة اختارتها فهي بالتأكيد فاخرة, لبثا في مدخل عمارة نسرين لبرهة تعدل له ملابسه, اطمأنت علي هندامه, صارحها وهي تعدل جاكتته:

- لو أنجبت بنتاً فسأسميها منيرة.

- منيرة اسم انقرض و خرج من عمليات تداول السجل المدني رغم شاعريته, ككل ما كان جميلاً انقضي زمنه...اليوم يسمون أسماء غريبة تحتاج جوجل ليفسرها لك...لا تستبق الأحداث, الحكمة تقول"لا تعد بصندوق إلا إذا حصلت علي الخشب"لم يوافق والدها عليك بعد.

احمر وجهه فأسرعت:

-لا تقلق سيوافق بالتأكيد.

رن جرس الباب ودقات قلبه تتعالي, فتحت نسيرين الباب ورحبت بهما, هذه المرة هو ضيفها, دلف إلي داخل الشقة ذات الجدران المزدحمة باللوحات والصور, الموناليزا تبتسم بغموض والجورنيكا تنتظر فك شفراتها, أضواء وظلال رامبرانت تحيط به من كل جانب, وقع بصره علي أبيها في كرسيه المتحرك جالس أمام رقعة الشطرنج, تقدم منه وسلم عليه بأدب, بعدها دخلت الأم وحيته, جلس بعدها الجميع في سكون بددته منيرة بقولها:

- في جلسات كتلك تهرب الكلمات دوماً من الناس, حين تقدم لي زوجي لم يفتح الله عليه بكلمة, بعدها أغرق أذني في أحاديث لا نهاية لها.

ضحك الجميع في ارتياح لهزيمة الصمت فتابعت:

- أحمد كما تعرفون فنان كبير ورجل أشهد له بالقيمة والفضل والاستقامة, لا أزكيه ولا أمدحه بما ليس فيه, مسائل النسب أمانة, اعتدت القول وأنا بنت قبل زواجي لقريباتي ورفيقاتي"من يسألكن عني وأنتن تعرفن أن بي عيب ما فصارحوه لن أغضب".

هز الأب رأسه في استحسان:

- إنك شخصية معروفة يا سيد منيرة ذات سمعة حسنة, وكلامك له اعتباره ووزنه.

تدخلت نسرين:

-أحمد يا أبي لا ينقصه شئ من الماديات.

أكدت أمها علي كلامها,لاوكانا اتفقا علي الانضمام لجبهة أحمد, فقال الأب:

-سمعنا من الجميع و صاحب الشأن معتصم بالصمت:

تحشرج صوت أحمد من الخجل ولم يجد ما يجيب به,لم تخطر له سوي عبارة:

- صاحب الشأن يطلب يد ابنتك يا سيد عماد, فما رأيك؟

- رأيي هو اتراه ابنتي,ؤومع ذلك خذ في اعتبارك تجربتها السابقة في الزواج, لا أريد أن تصيبها الخيبة مرتين...فهل أنت واثق من شعورك تجاهها؟

- كل الثقة.

- لماذا تأخرت في الزواج حتي تلك السن المتقدمة؟ لقد تزوجت وأنا في العشرين.

- الزمن يختلف كلياً عن زمنكم ,مجريات الحياة الآن في سيرها العشوائي المجنون جعلت الشباب بين خائف من الزواج, أو غير قادر علي تحمل مسئولياته.

- ومن أي الفريقين أنت؟

- كنت خائفاً من الزواج حتي أنارت نسرين حياتي.

- طوال عمري أعطيت لابنتي حريتها الكاملة ثقة في تربيتها وأخلاقها, غير عابئ بأفكار مجتمعنا المتردية في الحضيض, حتي بعد الطلاق لم أضيق عليها في أمر اعتزمته, لكني لن أسمح أن تضار من جديد في مشاعرها...سأسأل عنك بنفسي, فهل هناك ما تريد إخباري به؟

- تقصي ما شئت فليس في سيرتي ما يشين.

خيم جو من التحدي الخفي بين الأب والعريس, مرت لحظة ثقيلة أزاحتها منيرة عن الصدور:

- بالطبع لديك الحق في ذلك, ككل أب يهمه سعادة ابنته.

مرجع اللهجة الحادة في كلام الأب قرصته المميتة في الزوج السابق, ومعاملته القاسية لابنته التي أدمت فؤاده, أومأ بتؤدة ثم التفت إليه:

- أتعلب الشطرنج؟

باغت السؤال أحمد,توقع كل الأسئلة عدا مهارته في الشطرنج:

- أحياناً.

- الشطرنج تسليتي الوحيدة اليوم بعد أن أقعدني المرض وبهت نور عيني فحرمني من متعة القراءة والاطلاع...هل تعرف رواية"لاعب الشطرنج"لستيفان زفايج, أديب نمساوي انتحر في مستهل أربعينيات القرن الماضي؟

- سمعت بها, لست متخصصاً في دراسة الأدب.

- ليس بالضروري أن تتخصص فيه لتدخل عالم القصص الإنساني الرحيب, من فاته دون كيشوت لا يعرف سجن الوهم وسخرية الحياة اللاذعة, ومن يجهل وجود الكابتن إيهاب وملاحقته للحوت العملاق موبي ديك لا يدرك معني الهوس حين يتسيد علي عقول البشر, ومن صاحب هاملت فقد عرف الدنيا والناس...إنها الرواية التي جعلتني أعشق هذه اللعبة, القصة كما أتذكر تدور حول خصمين متباينين في كل شئ الرابط الوحيد بينهما براعة فائقة في الشطرنج, أحدهما ريفي بسيط لا موهبة له في الحياة سوي إدارة مربعات الشطرنج وماعليها, حتي نجح نجاحاُ فائقاً وتحول إلي بطل وظل محتفظاً بجلافته الأولي, والثاني رجل مثقف سجن في غرفة إبان الغزو النازي لأوروبا, وتمكن من سرقة كتاب عن الشطرنج من معطف أحد المحققين كرابط من العالم الخارجي ينجيه من عذاب السجن المنفرد دون اتصال بلمحة خارج غرفته ,فتعلم منه الكتاب اللعبة وطفق يلعبها في ذهنه كالمحموم, كي يخفف آلام العزلة وقلق الانتظار لنتائج المحاكمة, بلغ تولهه لها حد إصابته بانهيار عصبي حاد, اجتمعا ذات يوم علي ظهر إحدي السفن المسافرة من نيويورك إلي بيونيس أيريس, ودار بينهما صراع لا ينسي فوق رقعة الشطرنج...من تتوقع له الفوز؟

- الرجل المثقف؟

- كاد بالفعل أن يحرز الانتصار لولا أن خصمه اللئيم عرف نقطة ضعفه, وكانت تكمن في طبيعته ورتبها قدره كالأبطال التراجيديين"أعصابه",عذبه بالانتظار حتي تلفت وكاد الانهيار العصبي الحاد يعاوده من جديد فاضطر للانسحاب نادماً علي عودته للعب الشطرنج بعد أعوام طويلة تحاشاها خوفاً من موقف مماثل, والمغزي في تلك القصة له علاقة بموضوعك في الزواج, فأنت تعاني من نفس مشكلة الأعصاب تلك بعد صدمة الحادثة, ويالخوفي أن تنتكس مرة أخري لأي سبب فيفسد كل شئ.

تابع النساء الثلاثة حديث الأب بشغف, وتساءلت منيرة:

- كيف؟

- الزواج جزء من الحياة, ويمكنكم القول أنه الجزء الأساسي منها عند الرجال, فالرجل أولي اهتماماته منذ القدم يتمثل في الحصول علي أنثي ويفوق ذلك المطلب أي مطلب آخر, من خلال تجربتي وتأملاتي لاحظت أت كل المشكلات والصراعات والاضطرابات النفسية التي يمر بها الرجل منذ أن يفتح عينيه علي الدنيا سببها المرأة, إما يسعي إليها أو يهرب منها أو يحلم بها, وتؤثر علي طريقة تفكيره وتصرفاته بدء من المشكلات الكبري في العالم إلي الخلاف علي أولوية المرور في الطريق...الشطرنج يشبه الحياة فهو فن حل المعضلات الناجمة عن الصراع بين الأبيض والأسود بين الأنا والآخر, الأنا والمجتمع, الأنا والمرأة, الأنا والعالم كله,مناورات وخطط وتكتيكات كالحياة بالضبط, لا يمكن لعبها بأعصاب مرتجفة, لقد خسر صاحبنا في الرواية رغم عبقريه الفذة أمام خصمه بليد التفكير مقارنة به, لأنه تمكن من إثارة أعصابه كي ينهار ونجح في ذلك...هل تلعب معي دوراً؟

كالمنوم من انكب أحمد علي الرقعة مشتت التركيز منفلت الأعصاب من كلام الرجل وعاودته الرعشة والاضطراب بعدما ظن أنه قضي عليهما للأبد, وفي دقائق صاح الأب:

- كش ملك.

وعلت وجهه نظرة"أرأيت إنك علي الحافة مضطرب لا يأمن لك قرار,لن تفوز وأنت علي هذه الحال التعسة."

خففت نسرين ومنيرة من الاهتياج الذي بدأ يبدو عليه, فأخذا يحكيان ويدوان حول موضوعات مختلفة, وعقل أحمد يسبح في تيار أفكاره البعيدة, وودعهم غائب الذهب كشخص أصيب بالذهان فجأة.

في النهار التالي خرج الأب في صحبة صديق له علي المعاش, ليبدأ تحقيقاته حول العريس الراغب في الاقتران, فعلاً لم يجد فيه ما يشين إلا إذا كان اعتزال صخب الحياة ودناءتها, وعدم الخوض في تفاهات القول والبعد عن أحقاد الناس وأمنياتهم بالخراب لبعضهم البعض, اعتقاداً منهم أن سقوط ودمار الآخرين يعني انتصاراً ورفعة لهم, أصبح عيباً يلام عليه صاحبه في ذلك الزمن.

رجع إلي المنزل فاستقبلته زوجته متساءلة:

- ما الأخبار يا أبا نسرين؟

- الرجل لا عيب فيه, سوي ما عاني منه من انهيار نفسي عقب الحادث.

- إذن أجعلها تبلغه بالموافقة؟

- لا تغفلي مشكلة أعصابه.

-أكدت لي نسيرين أنها شفيت, وللحق أعصابنا كلنا تالفة حتي ولو بدا عكس ذلك, يكفينا صدمة واحدة لنبدو علي حقيقتنا ثائرين مهتاجين نسعي لإطفاء غلنا بأذي بعضنا, التجارب وحدها كفيلة بكشف حقيقة كل إنسان, وليس في هذه الدنيا شخص خال من العيوب...

صمتت للحظة تحسبن في سرها, وقالت بلهجة ذات مغزي قاصدة الزوج السابق:

- علي الأقل هذا نعرف عيوبه ولا يخفيها.

أشاح الأب ببصره عنها وقال وبصره معلق برقعة الشطرنج:

-موافق

غرست تلك المقابلة في أحمد ألم جديد, فأصبح يقضي معظم وقته في الحديقة الجديدة أمام قصر عابدين, كي لا ينفرد بأحزانه, ومع أن الأم كتمت الحوار الذي دار مع زوجها عن الجميع, اتفق مع رأيها وفكر في نفسه"إذا أراد ضمان سعادة ابنته, فليصنع لها روبوت يناسب مقاييسه ويبرمجه بكل ما تهفو له نفسه, اليوم يتحقق الخيال العلمي, وتلامست الآلات مع شكل البشر وعما قريب سيتشاركون نفس المضمون, إني علي ما أنا عليه لا أنقص ولا أزيد"جاء مجلسه في هذه الساعة من النهار في الحديقة بجوار سيارات الأطفال الصغيرة التي يأجرونها ليمرحوا في الأركان, ورأي طفلة تقود سيارة زرقاء تلوح له كلما مرت به, فضحك من قلبه ولوح لها مسروراً بها,وتخيل نفسه بجوار نسرين مع طفلهما المأمول يتنزهان في الأرجاء ويدخلان السينما مستمتعين قدر الإمكان بوقتهم ,كأسرة مصرية ترجو في غد أفضل وتعيش أيامها في الرخاء والعسر, علي غير انتظار رن هاتفه فأضاء وجهها الشاشة, أخبرته لاهثة من الانفعال بموافقة أبيها علي الزواج, شعر بالهدوء يحتويه ويهدهده من قدمه إلي رأسه, صمت الميدان حوله والطفلة تدور وتلوح له بسعادة, قام وقبل يدها الصغير, ثم عاد لمنزله يستكمل الرتوش الأخيرة للوحة, ظهر في الصورة عاقد الذراعين في حزم, ولو تكلمت يديه الثابتتين وهو يلونهما لقالتا"الكون يدور وكل شئ يدور معه, فلا مفر من وجود نقطة ارتكاز ثابتة كي لا يقع كل شئ في الفوضي والاضطراب, لو لم نجد ذلك الشئ علينا خلقه".

استعدت منيرة لترتيبات الخطوبة, طلب منها أن يحتفلا في جاليري السلام بجوار الأوبرا, إنه يريد نفس المجموعة التي وجدت في عيد ميلادها, ليحتفلوا كلهم بحياة جديدة...عالم جديد,في ليلة الخميس الأخير من ديسمبر أضاءت جاليري السلام أنواراً أكثر من المعتاد,ا لبلد كلها أنوارها مشعشعة, احتفالاً بالكريسماس وتحية للعام الجديد, لعله يجئ خالياً من الأمراض والحروب والمجاعات ليزيل الرعب والذعر من أرواح البشر الذين يخشون أن يقوموا في الصباح ليجدوا الأرض أصبحت خراباُ من فرط التهديدات بالدمار من كل جانب, في تلك الليلة اختار أحمد ونسرين اقامة حفل خطوبتهما.

البساطة سمة الجمال, وهكذا رسمت منيرة الليلة, رصت علي المائدة قطع الجاتوه والمياه الغازية, وكالعادة هي في المنتصف تحدب علي الجميع, وتبحث عمن لم يأخذ نصيبه من الحلوي, تساعدها راما الوجه الجديد في المجموعة, أحدث من وجد في منيرة الدعم والحنان, سرعان ماتقربت من منيرة وجعلتها معاونتها في مبادراتها الثقافية, طغت الهمهمات والأحاديث علي صوت عازف العود يدندن لحن"لسه فاكر", لم يمنعه ذلك من الاستمرار حتي وقفت أمامه راما تمد يدها بقطعة جاتوه:

-أنت لم تأخذ نصيبك من الحلوي, أتحب الشيكولاتة أم الكريمة؟

فقال ملحناً كلامه علي نفس رتم الأغنية:

- أني أحب الشيكولاتة, لكن كل ما سيأتي منك سأحبه.

وارتجا ضاحكين وبدآ يتهامسان...

ارتدت نسرين فستاناً أسود يتماشي مع خصلات شعرها الناعم, جاعلاً بياض بشرتها أشد وضوحاً, وجلس الأب والأم في الركن يرجوان لها في قلبيهما حظاً أسعد,و لم تخل نظرات الأب من رسائل خفية يبثها له طوال الوقت, في خضم الحفل والكل مشغول بأمر ما, أمسك أحمد يد خطيبته بهدوء وأشار علي شفتيها بالصمت, وانسل إلي الشرفة فلفحتهما برودة الهواء, نظر أحمد للتناقض بين الشارع المكتظ بالسيارات المتسابقة والبشر الغفير الخارج للاحتفال بالعام الجديد يتحدون الصقيع القارص, وبدت له قباعات سانتا كلوز تحتل الرؤوس و تضئ نجومها الحمراء,وبين السكون الجامد المخيف علي صفحة السماء, حيث أشعة القمر تتسلل بين الغيوم الداكنة, بلون فضي رائع يبث جواً من السحر, لمس خديها بأصابعه فمالت كي تحتضنها برأسها:

- إنك حولت مسار حياتي في أشد أوقاتها صعوبة, لقد ظنتت أن الوقت غير مناسب لأي شئ, لا للعمل ولا للحب, حتي وجدت صورتك تهزني من أعماقي, وحين عرفتك أصبحت أشباح الماضي هباء, ودعت الذكريات وانشغلت بالمستقبل, إن الواحد منا يستغرق في ماضيه إذا انعدم الأمل في المستقبل, ينقض الأمس علي اليوم فيهدمه ويبرز أنيابه السامة للغد فيأتي الغد ثقيلاً يخشي من شرور الماضي, أما إذا استنار المستقبل فالماضي يتواري في زمنه ليفسح الطريق الملكي لمرور الغد.

- وأنا المثل تماماً,تجربتي المريرة في الزواج أصابتني بكراهية للرجال,لكن في وجودك انتثر الجدار الذي كان يحجب عني نور الحياة والأمل إلي شظايا.

ضحكت بدلال:

- وكل ذلك علي شرف لوحة بيضاء.

أجاب وهو يدق الأرض بقدميه مرحاً:

- إنها اللوحة التي رسمتنا نحن قبل أن نرسمها هي!

توالت زخات المطر في الانهمار فمدا أيديهما للخارج يحسان بتدفق حبات الماء علي جلدها, وبيبتسمان لأمل يداعب باطن كلاً منها,انتبها علي صوت دقات الزجاج, فرأيا منيرة تشير لهما بالدخول وقاية من البرودة والمطر,فدخلا متشابكي الأيدي يشقان طريقهما وسط المدعوين.

في اليوم التالي ازدهرت الأرض بغذاء الشمس لها من حليبها الدافئ, غسل مطر الليلة السابقة الشجر والطرقات, فاكتسيت الدنيا بثوب جديد طاهر غسل عنها أدران عام كامل لم يعرف العالم فيه جديد ,ماحدث يحدث منذ آلاف السنين بصور مختلفة, يغالب الخير الشر فيثار غبار مؤذ يعمي الجميع, ويعيشون أيامهم تتناوشهم لمسة حانية أو قرصة سامة, تحدوهم رغبة في التغيير لا تجد لها متنفساً علي أرض الواقع, خرج أحمد في يده اللوحة مغلفة بإحكام وانطلق ناحية بيت نسيرين, فتح له الأب الباب وذهل لوجوده أمامه في هذه الساعة وقال متعجباً:

- استيقظت مبكراً بعد سهرة الأمس.

- لم أنم من الأساس.

هز الأب كتفيه:

-تفضل.

أفسح له كرسيه فدخل وأغلق الباب خلفه, ولما استقر في الصالون, فتح الغلاف وأخرج اللوحة بحرص, فلمع أطارها الذهبي الفخم:

- هذه نتيجة علاقتي بنسرين, أو ثمرة للقنديل الذي طرد العتمة من أيامي, تلك العتمة التي كادت تقضي علي وتخمد أنفاسي.

نظر له الأب في صمت بارد فلم يهتز:

- أهم لوحاتي, ليست لأنها الأعظم أو الأفضل,رإنما لكونها شاركتني فيها, كان من الممكن أن تظل صفحة بيضاء فارغة لا قيمة لها, كروحي قبل لقياها, لولا هاتين اليدين اللتين بثت فيهما ابنتك الحياة من جديد وأشعلت في عروقي التمسك بالحياة والعمل, وأذابت وقر أذني فسمعت الآمال تنادي والأحلام تناجي, وانتشلت قلبي من أعماق الضياع لينبض من جديد بالحب والسعادة, إني أهديها إليك كي تضعها نصب عينيك علي الدوام وتطمئن علي ابنتك معي, إني بدونها كلوحة بيضاء فارغة لا وجود لي, ولا يمكن لإنسان عرف طعم الألوان والحركة والمعاني الحلوة أن يحرم نفسه منها ويعود للفراغ.

انشرح صدر الأب وأشار لمسمار معلق نحو الحائط:

- البيت بيتك ولوحتك في الحفظ والصون.

علقها أحمد وعاد لجوار الأب, ومضت وهلة يتأملان اللوحة, وأخيراً سمع عماد نبرة أبوية تقول:

- هل نلعب دور شطرنج آخر أم نتناول طعام الإفطار أولاً؟

أجاب وبصره مايزال معلقاً باللوحة:

- كما تحب أنت.

في الداخل وقفت نسرين علي أطراف أصابعها مستندة بظهرها إلي الحائط, بهيئة حالمة وأشعة الشمس تضفي عليها لمعة ذهبية براقة تتبادل النظرات مع صورتها الجديدة بيدي أحمد.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق