الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

الغرق علي اليابسة

 

الغرق علي اليابسة

هبط من السيارة لتستقبله نسمات شاطئ المعمورة المشبعة برائحة اليود المطبب للأرواح التي أنهكها التراب واللهاث,ولما لسعته الشمس المتوهجة بعنفوان لم يشعر بالإنزعاج بل ازداد انتعاشاً,لحظتها راودته ذكريات طفولته البعيدة,عندما كان والده يصطحبه للمصيف هنا كل عام,لقد ورث حب تلك البقعة السكندرية من أبيه الذي شارك في بنائها فترة الستينيات,يشعر أن جزء من تاريخه الشخصي ينتمي لهذا الشاطئ البديع,لم يغرم بالمصايف الجديدة,يري فيها أناساً لا يشبهونه,يقصدون أماكن معدة لصرف المال ببذخ دون حميمية صادقة,جر حقيبته علي الممشي وهو يتأمل عناق البحر مع السماء,ووشيش الموج يصل إلي سمعه,صعد إلي الشاليه وضع حاجياته أمام الباب واتجه نحو الشرفة,فرآها تجلس وحيدة مستندة بيدها إلي خدها ترنو إلي بعيد سارحة في أفكارها الخفية,وجهها المريح الهادئ أنساه البر والبحر,وذابت الموجودات من حوله,هرب الماضي وتواري المستقبل واللحظة الحاضرة وحدها تفرض نفسها علي كل كيانه,خشي أن تفضحه نظراته فهرع إلي الشاطئ,واندمج مع البحر في رقصتهما السنوية التي يؤديانها كل صيف غطس في الماء حتي تلاشت أنفاسه,وحين انتشل رأسه ليعب من الهواء,فتح عينيه فرآها من جديد أمامه تقترب من أحد الكراسي وتجلس تحت المظلة,كانت ترتدي كاش مايوه حريري يكشف عن ساقيها وذراعيها,وشعرها الأسود يلتمع في النور,وعيناها مازالت ترنو إلي البعيد غير عابئة بالعيون المنصبة علي جسدها تلتهمه بحدقاتها,خرج من الماء واقترب منها,حاول أن يتمتم بكلمة أو كلمتين يخبرها أنهما جيران في المسكل,لكن كالعادة ثقته خانته وعبرها بسرعة يغلبه اضطرابه,وظل حتي حلول الليل في اضطراب لا يعرف السكينة,لقد سافر ليريح قلبه المكدود من هموم الحياة لا ليشعله بالشوق والحيرة.

رآها تنسل برشاقة من الباب متجهة صوب الممشي,فهرول علي السلم حتي كاد يقع,وسار خلفها كأنه عاد مراهقاً من جديد لا يستطيع كبح مشاعره ولا ضبط سلوكه,يتراقص وشاحها المعقود علي خصرها مع الهواء,فيسير مترنحاً يصطدم بالمارة وراكبي الدراجات,يحاول استجماع شجاعته ويحادثها عند وقوفها دقيقة تستريح من المشي فتنفك أعصابه وتتساقط عزيمته.لم يقدر ولو مرة في حياته علي مواجهة الخوف والخجل,إنهما السجن الذي عاش فيه طوال35عاماً,فعزله عن الناس وعاش فيه وحيداً,وهو سجن كلما تقادم عليه الزمن ازداد رسوخاً وتعالت أسواره وازداد عواء كلابه.

مرت الساعات وهو يسير خلفها دخلت مطعم"sound of waves",فتبعها وجلس أمامها,وتعجب كم تشبه وحدتها وحدته,ولم يزرع ذلك الثقة في قلبه بتاتاً بل ازداد رهبة,طلبت البيتزا واكتفي هو بقطعة كرواسون,لا يشعر بالجوع,ليس في داخله سوي الأشواق والمخاوف.

عاد كل منهما إلي الشاليه الخاص به,راعه أنها بدأت تلملم أشيائها,ومع ظهور الشمس في الصباح التالي كانت لسعته هذه المرة مؤلمة,وقف في نافذة المطبخ المطلة علي الناحية الأخري من الشاطئ,يراقبها وهي تضع حقيبتها في سيارتها,وعينيها مختفية خلف نظارة شمسية,لاحقها بنظراته حتي ابتلعتها جدران الأسمنت وغابت عن عينيه للأبد,شعر بالحنق الشديد علي نفسه ومزقه الأسي واللوم علي حاله المزري وافتقاده الشجاعة اللازمة أن يكون فاعلاً بدلاً من البقاء مفعولاً به,وجلس مهدوداً علي الكرسي الصغير,غارق في أفكاره الحزينة,حتي دق جرس الباب فعاد من جولته المؤسفة المصبوغة بالأفكار السوداء,وفتح الباب ليجد أم أحمد السمسارة الطاعنة في السن التي تتميز بنشاط عجيب يفتقده أبناء العشرينيات تصطحب حفيدتها الصغيرة,وبعد السلام سألته:

-هل ستمدد إقامتك ليوم آخر أم سترحل ظهر الغد؟

قسر نفسه علي الابتسام وأجابها:

-يكفي جداً هذين اليومين,سأرحل في الصباح الباكر.

حدقت فيه الصغيرة بفضول,وسارعت جدتها تقول:

-من حقك المكوث حتي الظهيرة.

نظر إلي شرفة الفتاة الفارغة التي لم يعرف حتي اسمها,وقد امتلأت بأسرة صاخبة يصرخ أطفالها برغبتهم بنزول البحر سريعاً:

-إني متنازل عن ذلك الحق.

تنهدت العجوز ونزلت مع الصغيرة للأسفل متجهة إلي حجرتها الضيقة,ورأي الطفلة تركض وراء قطة حتي مسكتها وحملتها بين ذراعيها بلطف,مشي بتثاقل للبحر,ومكث فيه حتي المغيب,لكنه لم يراقصه كما انتظر البحر منه,بل وقف ساكناً مستسلماً للأمواج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق