الاثنين، 8 ديسمبر 2025

السبع دوخات

 





السبع دوخات

عن قصة زعبلاوي لنجيب محفوظ

سيناريو وحوار: محمود قدري























م/١               عيادة طبيب نفسي               ن/د


ضياء رجل في الأربعين يجلس علي مقعد أمام طبيب نفسي، يناوله الطبيب روشتة دواء

ضياء يسخط ولا يأخذها منه

ضياء: مش عايز دوا! علاجي مش برشامة أزحلقها بشوية ميه في زوري. 

الطبيب(مهدئاً): الدكتور النفسي مش ساحر، والاكتئاب وحش بيكبر كل دقيقة، لازم نواجهه بكل الأسباب الممكنة... وجع الفقدان مش سهل. 

يقبض ضياء بأصابعه علي الروشتة ويضعها في جيبه، ويخرج متضايق من الباب. 

ينظر له الطبيب في أسي وعجز. 


قطع























م/٢               شقة ضياء(الصالون)                ل/د


الإضاءة كابية... نور باهت وحيد منبعث من أباجورة صغيرة موضوعة علي طاولة مستديرة. 

ضياء ممدد علي الأريكة، يقلب في صور هاتفه، فنري صورة زفافه مع زوجته الراحلة، ينظر لها بتأثر شديد ويتكلم معها. 

ضياء: سنة يا سلمي من غيرك... سنة مرت عليا كأنها قطر هرس جوايا كل حاجة. 

يرن هاتفه، يرد ولا نسمع ما يقوله الطرف الآخر لكن ندركه من كلام ضياء. 

ضياء(ساخراً بمرارة) ماتقلقش لسه عايش، الانتحار عايز شجاعة مش عندي

ثوان يستمع فيها لمحدثه. 

ضياء: حاول تمد لي الأجازة أكتر معلش، مش قادر آجي الشركة

يغلق الخط، ويستمر في تقليب الصور، نري صورة له مع والده وهما في غاية السعادة، ويسرح فجأة متذكراً شئ ما. 

ص. ضياء في صغره: هو مين بابا زعبلاوي ده اللي كل ماترجع من عنده، تبقي فرحان قوي كده وتشتري لي كل الحلويات اللي بحبها. 

ص. الأب: الزعبلاوي ده يا ابني راجل زي الملايكة كده، تقعد معاه تحكي له همومك ترتاح كأنه شالها عنك، حلال المشاكل والعقد، حاكم فيه ناس كده يا ضياء يا حبيبي، ربنا يخلقها عشان الدنيا تتوزن بين الوحش والحلو. 

ص. ضياء في صغره: طب ليه الناس بيغنوا له(يغني) الدنيا مالها يا زعبلاوي    شقلبوا حالها وخلوها ماوي؟ 

ص. الأب: بيشكوا له حالهم واللي جرالهم. 

ص. ضياء في صغره: بابا...يعني إيه ماوي؟ 

ص. الأب: يعني اللي كان فوق بقي تحت، واللي بات الضحكة علي وشه صبح دموعه علي خده(يتنهد) دنيا! 


قطع









م/٣               إشارة شارع مزدحم          ن/خ


ضياء يقود سيارته في زحام خانق. 

يري امرأة شوهاء تحمل علي كتفيها طفل رضيع تتسول به. 

زوجان في السيارة التي بجواره يتشاجران. 

فتاة تبكي وبحوارها أخري تربت عليها. 

تفتح الإشارة وينطلق بطيئاً وسط زحام البشر والسيارات. 


قطع

















م/٤               مكتب الأستاذ قمر(صالة الاستقبال)    ن/د


يجلس ضياء في مكتب بالغ الفخامة، وسط مجموعة كبيرة من الناس الذين يحملون أوراقاً عديدة، وملفات كثيرة ينتظرون دورهم في الدخول. 

ينظر للوحة شكر كبيرة معلقة علي الجدار تقديراً للأستاذ قمر المحامي في حل مشكلات الموكلين. 

تخرج من حجرة قمر امرأة فاتنة الجمال ترتدي ملابس مثيرة، تضحك وتقف عند الباب تودعه بتلويحة رقيقة من يدها. 

من فرجة الباب نري قمر متهلل الوجه يحيها برفع يده

تشير السكرتيرة لضياء بالدخول. 

السكرتيرة: اتفضل دور حضرتك


قطع




















م/٥               حجرة قمر               ن/د


يدخل ضياء يتعثر في خجله، فيقابله قمر مبتسماً بترحيب حار، مشيراً له بالجلوس وبين أصابعه سيجاراً فاخراً،وعلي المكتب الانيق لوحة باسم"الأستاذ قمر بهجت المحامي". 

قمر:شرفت مكتبنا

يجلس ضياء أمامه يمسح وجهه بمنديل، تمر لحظات صمت يقطعها قمر ليدفعه للكلام. 

قمر: خير إن شاء الله؟ قولي مشكلتك وماتقلقش ولا تحب تشرب حاجة الأول. 

ضياء: لا مالهوش لزوم، أنا ابن علي التطاوي زميلك في الأزهر

تتلاشي ابتسامة قمر لحد ما

قمر: الله يرحمه

يتغلب ضياء علي خجله، فلم يعد هناك مجالاً للصمت. 

ضياء: الحقيقة أنا جاي اسأل عن الزعبلاوي، أبويا كان قايل إنك اللي عرفتهم علي بعض. 

يرجع قمر بظهره للمكتب وقد تلاشت ابتسامته تماماً

قمر:ده كان زمان، أنا بقالي ٣٠سنة ماشوفتهوش. 

ضياء: كان فعلاً زي مابيقولوا عليه؟ 

قمر: وأكتر.

يتشاغل قمر ببضعة أوراق علي مكتبه. 

يقوم ضياء ويخاطبه بينما يتراجع للخلف نحو الباب. 

ضياء: ماتعرفش ممكن ألاقيه فين؟ 

قمر(بصرامة من ينهي حديثاً لا يعجبه) : بقولك بقالي ٣٠سنة ماشوفتهوش. 

يخرج ضياء شاعراً بالإحراج الشديد. 

يسهم قمر للحظات وكأنه يتذكر شيئاً ما يسيطر علي كيانه. 

يدخل  رجل يبدو عليه الثراء الشديد، فيفيق لنفسه ويرحب به بحرارة. 


قطع





م/٦               معرض سيارات               ل/د

يقف ضياء مع الحاج علي، وهو رجل وقور يرتدي عباءة، ويخاطب عامل عنده يمسح واجهة المعرض الزجاجية. 

الحاج علي:اتكي شوية عالإزاز يا مسعود الله يكرمك، ولما تخلص خد حسين وطوقوا العربيات تطويقة حلوة كده. 

العامل: أوامرك يا حج علي. 

الحاج علي(لضياء) :متآخذتيش يا أستاذ معلش، قطعت كلامنا، بس لازم تبقي عيني علي كل حاجة، انت سيد العارفين، حاكم محدش بيشتغل بضمير إلا لما يحس إن العين عليه. 

ضياء: الله يكون في عونك يا حاج

الحاج علي: زي ما كنت بقولك كده الزعبلاوي مالهوش مطرح معين، صحيح أنا أقدم واحد في المنطقة، أقدر أدلك علي الكبير والصغير، اللي حاضر واللي غايب، بس الزعبلاوي مش معني إنه بيته هنا يبقي عايش هنا. 

ضياء: يعني إيه؟

الحاج علي: يعني ده راجل سواح هايم في أرض الله، ممكن يقعد شهور في بيته مايعتبش براه، ويقعد سنين مايهوبش ناحيته. 


يحني ضياء رأسه بيأس. 

ينظر له الحاج علي بعطف

الحاج علي: ياه ده انت باين عليك حالتك صعبة قوي... طب اسمع. 

ينتبه له ضياء بكل حواسه. 

الحاج علي: أنا سامع كده، مجرد سماع يعني والعلم عند الله إنه بقاله فترة بيروح عند حسين الخطاط

ضياء: عنوانه اعمل معروف. 



قطع









م/٧               دكان حسين الخطاط               ن/خ


يقترب ضياء فنري حسين من ظهره.

يكتب حسين بالخط العربي الآية الكريمة "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور"،ثم يلتفت خلفه فيجد ضياء.

ضياء(في حزن) :زعبلاوي! 

ينظر له حسين في دهشة


قطع





















م/٨               حارة قديمة               ل/د


حارة شعبية تختلط فيها أصوات الباعة مع النداء مع شجار النساء.....القمامة في كل مكان


قطع


























م/٩               بيت الملحن جاد (صالة)             ل/د


المنزل في فوضي، خمسة أطفال منهم من يبكي ويركض ويتشاجر، يرن الجرس تظهر فتفتح زوجة جاد وهي امرأة بدينة يبدو عليها سمات التفاني الذي تخلفه الأمومة في نفس المرأة، فتجد ضياء عند الباب. 


ضياء:الأستاذ جاد موجود؟ 

المرأة(مرحبة) :اتفضل موجود

يهدأ الأطفال وينظرون له في فضول. 

تقوده المرأة إلي حجرة مغلقة وتفتح الباب، تغيب لحظة وتعود. 

المرأة: اتفضل بيتك ومطرحك


قطع

















م/١٠                 بيت الملحن جاد(حجرة الجلوس)                   ل/د


يدخل ضياء الحجرة فيجد جاد هو رجل خفيف الدم يتسم بالبساطة، يدندن علي العود لحن"مدام تحب بتنكر ليه"، يشعر به جاد فيقف محيياً

جاد:أهلاً وسهلاً، اقعد ياراجل واقف ليه!

يجلس ضياء علي إحدي الشلت.

جاد: شاي ولا قهوة؟ ولا تحب الست أم إبراهيم تعمل لك شوية رز بلبن؟

يبتسم ضياء لبساطة الرجل.

ضياء: لا ولا أي حاجة.

جاد( ينادي) :يا أم أبراهيم اتنين شاي. 

جاد يلعب بأوتار العود وكأنه نسي وجود ضياء.

ضياء: اسمي ضياء وجاي لك من طرف حسين الخطاط، قالي إن الزعبلاوي عندك.

جاد:الزعبلاوي ياالله... ده لسه كان عندي الشهر اللي فات.

ضياء(بأمل) :وهو بيجي هنا كل شهر؟

جاد:مالهوش مواعيد، ممكن يخش علينا دلوقت، وممكن ماشوفهوش لحد ما ربنا يفتكرني.

ضياء: يا خسارة المشوار!

جاد: الله يسامحك بقي تقول كده علي زيارة عرفتنا ببعض؟!

ضياء:آسف قصدي....

جاد: ولا يهمك الله يعينك، محدش بيحتاج الزعبلاوي غير اللي شايل هموم طابقة علي صدره وكاتمة علي نفسه، ممكن تلاقيه عند رجل الأعمال المشهور ونس الدمنهوري، بيقعدوا لا مؤاخذة في بار النجمة.... حاكم الزعبلاوي كده تلاقيه في أماكن ماتخطرش علي بال، ولو حد عاتبه يقول: كلهم عباد الله وياعالم مين فيهم اقرب له. 

هذه المرة لا يبدو ضياء متحمساً للخبر، لقد تسلل إليه اليأس

يدندن من جديد

جاد: تحب تسمع حاجة موسيقية.

ضياء: طبعاً

جاد: هاسمعك لحن ألفته والزعبلاوي قاعد عندي، يلاعب الإولاد كأنه عيل زيهم، وكل ما أتعب يخش عليا بنغمة ولا بمقام ألاقي ربنا فتح عليا، لحد ما خلصت اللحن في ليلة واحدة. 

ضياء(مندهشاً) :ليه في الطرب كمان زي ماطلع ليه في الخط؟ 

جاد: ده أبو الطرب نفسه... ياسلام علي صوته كده لما يغني ويلعلع، تقولش ربنا خلق فيه عبد الوهاب وعبد الحليم مع بعض. 

يغني جاد مطلع قصيدة ابن الفارض

جاد:أدر ذكر من أهوي ولو بلام

فإن أحاديث الحبيب مدامي

ليشهد سمعي من أحب وأن نأي

بطيف ملام لا بطيف منام


قطع
























م/١١              حانة النجمة               ل/د


الحانة راقية وروادها غير مبتذلين، ونس الدمنهوري له يرتدي بذلة فاخرة، ويجلس وحيداً علي إحدي الطاولات، يشرب وهو بستمع لمغنية تغني أغنيةmalade je suis. 

يدخل ضياء، ويقترب منه. 

ضياء: لو سمحت يا ونس باشا ممكن دقيقة؟

ينظر له بلا مبالاة

ونس(بصوت سكران) :اقعد واشرب.

ضياء: مابشربش.

ونس: مابتكلمش مع حد غير وهو بيشرب، غير كده مع السلامة.

يضطر ضياء للجلوس، يصب له ونس كأساً يشربه ضياء باشمئزاز، وحين تهدأ حرارة الكأس يهم بالكلام.

ضياء: أنا.... 

ونس (مقاطعاً): مابكلمش حد فايق! 

يشرب ضياء عدة كئوس ثم... يغيب في حلم. 



قطع












م/١٢               حديقة(حلم)               ن/خ


حديقة في غاية الجمال. 

ضياء وزوجته يقفان علي حافة بحيرة، يضحكان في سعادة، يقطف ضياء الزهور وينثرها علي قدميها. 

فجأة ينزلق في البحيرة ويختفي داخلها. 


قطع























م/١٣               عودة إلي الحانة               ل/د


يفيق ضياء مفزوعاً، ويتلفت حوله فيجد البار فارغاً ولا يوجد سوي عدة زبائن. 

يضع يده علي رأسه متوجعاً فيجدها مبللة بالماء. 

ضياء:إيه الميه دي؟ 

ونس:واحد حبيبي حاول يفوقك كتير وفي الآخر طبطب عليك وقام. 

ضياء:حد شافني عالحال ده؟ 

ونس(ضاحكاً) :ما تقلقش ده مش أي ده الزعبلاوي! ماسمعتش عنه؟

ينتفض ضياء واقفاً. 

ضياء:الزعبلاوي؟ 

ونس: آه مالك؟ 

ضياء: ده أنا دايخ عليه السبع دوخات. 

يركض للخارج محاولاً اللحاق به. 


قطع















م/١٤               شوارع               ل/خ

يركض ضياء متلفتاً حوله في كل ركن. 

يتوقف فجأة يبتسم بمرارة وقد طرأ علي ذهنه شئ ما. 

ضياء(لنفسه) :حتي لو شوفته مش هاعرفه



قطع





















م/١٥              البار               ل/د



يعود ليجلس بجوار ونس متهالكاً. 

ونس علي وجه أسف حقيقي. 

ونس: سامحني ماكنتش عارف إنك محتاجه. 

ضياء: هو انت خليتني أقول حاجة! 

ونس: أنا غلطان حقك عليا... لو مشكلتك فلوس ولا يهمك أنا سداد

ضياء: مشكلتي نفسي... معاك تمنها؟ 

ينظر له ونس بإشفاق

ونس: تعالي بكرة أكيد هاييجي تاني. 



قطع

















م/١٥               فوتومونتاج              ل/د



١-ورقة خريف صفراء تقع علي أرضية شارع موحل بماء المطر، وتدوس عليها قدم قاسية.

2-ونس وضيلء يسيران مع بعضهما يتحدثان، وقد نمت بينهما صداقة.

٣-ونس وضياء يشربان وكل منهما سارح في أحواله.


قطع

























م/١٦               أمام الحانة               ل/خ

يخرج ضياء من الحانة، ينظر للسماء.

ضياء(منادياً) :يازعبلاوي!

تنظر له امرأة تمر به في سخرية.

يسير في الشارع حتي يبتلعه الظلام كأنه يدخل للمجهول.


النهاية


الخميس، 9 أكتوبر 2025

فيلم umbrella... البناء النموذجي والمعني المؤثر

 فيلم umbrella... البناء النموذجي والمعني المؤثر



ولد فن السينما صامتاً وقصيراً جداً، وكانت الأفلام الاولي يتراوح منها بين أقل من دقيقة وأزيد من عشر دقائق، وفتحت تلك الدقائق القليلة للمشاهدين الاوائل لهذا الاختراع الجديد، عالماً سحرياً مذهلاً، اختلط فيه الخيال بالواقع، ومن خلال الكاميرا التي حلم بها العلماء وأصبحت واقعاً ملموساً، حتي توج الفكرة الاخوين لوميير باختراع السينما أواخر القرن التاسع عشر، صنع السينمائي الفرنسي جورج ميليس رائد الخدع السينمائية مجده التاريخي بأفلام كـ A trip to the Moonو The House of the Devil  ، وعرف العالم لأول مرة شارلي شابلن أو آدم السينما عندما ظهر لأول مرة في فيلمMaking Living عام ١٩١٤،ورأت العين شخصيات أدبية سكنت عالم الورق كفاوست وشارلوك هولمز، ومايزال الفيلم الصامت يحتفظ بسحره الفني، ويعيدنا للمنبع الصافي لفن السينما، حيث الصورة هي سيدة العمل السينمائي، فإذا كان تعريف السيناريو هو قصة تروي بالصور، فالفيلم الصامت مدرسة لتعلم تقنيات البناء الفني، ولو كان بالإمكان تعريف الفن السردي بكلمات قليلة-تجاوزاً-فهو بناء قصصي محكم يجيد السارد فهم مفاتيحه، سواء عن طريق الموهبة والسليقة أو الدراسة والتجربة.

صحيح أن الفيلم الطويل هو المسيطر علي الذائقة الجماهيرية منذ عرض الفيلم الإيطالي Quo Vadis ١٩١٣، للمخرج إنريكو جوازوني، حيث كان له تأثيراً محورياً علي صناع السينما في ذلك الوقت، وخاصة المخرج الأمريكي ديفيد جريفيث، أحد أبرز رواد السينما علي مر التاريخ، الذي تأثر بهذا الفيلم وغيره من الملاحم الإيطالية الطويلة ذات الميزانية الهائلة، والديكورات الفخمة، وكانت مصدر إلهام له.

الفيلم القصير يحكي قصة، والطويل أيضاً يحكي قصة، كلاهما قائم علي أسس الدراما المعروفة، شخصية تسعي لتحقيق هدف ما، تواجهها عوائق تصنع صراعاً، مما يؤدي إلي ذروة يتبعها حل، ومع ذلك يفصل بينهما مساحة شاسعة، تجعل للفيلم القصير طابعها ولونه المميز عن الطويل، إنه يشبه كلمة همسة نابعة من قلب الفنان لتستقر في قلب شخص آخر، أما الطويل فخطاب مشحون بالتفاصيل، ولكل منهما جماله الخاص، يعبر عن الفرق بينهما الكاتب والسيناريست البريطاني إليوت جروف عندما يعتبر الأفلام القصيرة بمثابة قصائد هايكو(أحد أنواع الشعر الياباني، يتميز بقصره الشديد فيكتب في ثلاثة أسطر، ويحمل شحنة شعورية وتأملية عميقة للغاية)، أما الأفلام الطويلة تشبه الروايات.

فيلم الانيميشن القصير جداً umbrella عام 2019من إخراج المخرجة والكاتبة البرازيلية هيلينا هيلاريو وزوجها ماريو بيس، أحد القصائد المرئية المؤثرة التي نبتت في حديقة الفيلم القصير، ٨دقائق وعدد قليل من الشخصيات يحملون رسائل إنسانية راقية، تشيد من جديد حصن إنسانيتنا الذي هتكته الحياة من حولنا، وسيحعلوننا نفكر كثيراً قبل أن نصدر الأحكام السريعة البلهاء ضد أي شخص، فلا يوجد أسهل ولا أرضي للغرور البشري من إطلاق الأحكام علي الآخرين، الصعب حقاً فهمهم واكتشافهم والتعاطف معهم، حينها سيولد التسامح بين جميع أبناء آدم، وسيتغير وجه العالم القبيح الممتلئ بالكراهية والمقت والحروب. 

كل ما في العالم مائدة حافلة بالإلهام للكاتب السيناريو، تجربة مر بها، خبر قرأه في جريدة، قصيدة اطلع عليها، عمل أدبي لمس فيه وتراً شعورياً، بل تجارب الآخرين كثيراً ما تكون حافزاً للعمل، وقد استلهمت المخرجة فكرة الفيلم من موقف حدث لشقيقتها، في مدينة بالماس بالبرازيل، عندما كانت في زيارة تطوعية لإحدي دور الأيتام في ديسمبر ٢٠١١ قبيل حلول عيد الميلاد المجيد، دخلت حاملة صندوقاً مليئاً بالألعاب مما أثار البهجة والسعادة في نفوس الأطفال اليتامي، عدا طفل واحد لم يهتم بالألعاب الكثيرة، ولم وبدأ يبحث عن شئ ما، ولما خاب أمله في إيجاده ذهب ليجلس وحيداً بجوار النافذة، اقتربت منه شقيقة المخرجة واستفسرت منه عما به، فأخبرها قصة ستتحول لفيلمنا الذي سيحصد الجوائز والإعجاب. 

يدور الفيلم حول ولد صغير تعيس، يجلس أمام النافذة فيري امرأة وابنتها، يدخلان لدار الأيتام الذي يقيم فيه، وعندما يلمح مظلة صفراء في يد البنت يبتهج، ويهبط للأسفل غير عابئ بالألعاب التي حملاها معهما للأطفال، كل تفكيره ينحصر في المظلة الصفراء، كأن كيانه تجمع فيها، يأخذ المظلة ويخبئها في أحد الدواليب، وسرعان ماتكتشف البنت الأمر وتغضب منه المشرفة والأم، لكن الثلاثة ترق قلوبهم حين يكتشفون قصته المحزنة، فتلك المظلة توأم لمظلة والده التي كان يحملها معه، وكان يتجول معه في الشوارع يعانيان البؤس والتشرد والحرمان، وفي النهاية يستحيل علي والده العناية به، مشفقاً عليه من العذاب يودعه دار الأيتام، كي يجد الطفل لنفسه لقمة تشبعه وسقفاً يؤويه ويقيه الحر والبرد، إنها تذكره والده الذي حرم منه، فتمنح البنت المظلة للولد، وتمر السنوات ونري الولد أضحي عجوزاً  متعلقاً بالمظلات  حتي أنه يمتلك محل لبيعها، ومايزال شبح أبيه بالمظلة الصفراء يخايله ويتراءي له، يشاهده من داخل المحل بهيئته كما رآه آخر مرة، فيهرع نحوه كطفل ويتعثر ثم يقع علي الأرض، ويتلاشي شبح الأب العائش في وجدان الطفل، وتساعده علي النهوض زوجته المحبة ونعرف فيها نفس البنت التي زارته يوماً مع والدتها في دار الأيتام، ومنحته عن طيب خاطر مظلتها. 

اختار صناع العمل سرد القصة بدون حوار، لأنها بذلك ستكون أكثر عالمية وانتشاراً وسيفهمها الناس في كل مكان، خاصة أن الإنتاج برازيلي، وبالتالي سيحتاج إلي ترجمة بلغة مختلفة كلما عرض في دولة ما، وتلك النقطة هي سحر السينما الصامتة، فإذا كانت بلبلة الألسن تقوم كعائق كبير بين الشعوب، فالصورة وما تحمله من مشاعر فياضة، وهي تروي حكايات تمس القلوب أينما كانت، ومهما كانت اختلفت الثقافات والتجارب، توحد أبناء آدم من شتي الأصقاع والاتجاهات والأيدولوجيات، كلهم يتأثرون بتفس المعاني ويحملون نفس الآلام والآمال التي يرونها بأرواحهم قبل عيونهم، وبالاستعانة بموسيقي غابرييل ديب تتعمق المشاعر التي يثيرها الفيلم، وتبدو الأنغام لها شخصيتها المستقلة المشاركة في الأحداث، فلا يمكن تخيل فيلماً صامتاً أو ناطقاً بلا موسيقي، وقد صاحبت النغمة الصورة منذ العهد الأول للسينما، فعلي جناح الموسيقي عشنا مشاهد الرومانسية والخوف والأمل والحزن، وتسللت لنفوسنا حكايات موازية نسجتها الآلات الموسيقية وهي تتحاور فيما بينها. 

المظلة انتقلت من الحكاية الأصلية للطفل البرازيلي إلي رمز إنساني، عندما عرضت في فيلم قصير جداً... رمز للفقدان الذي يعذب كل واحد منا، ويحيا ويتحرك وجزء من وجدانه غائب، ربما حياتنا كلنا عبارة عن محاولات لملء الفراغ الذي خلفه الفقدان، لكن لا شئ يستطيع ولو ظل محاطاً طوال الوقت بأشباه الشئ الذي فقده! والفيلم يعرض بدقة ردود الفعل تجاه الفقدان، فعلي المستوي العاطفي نري الطفل غارقاً في الحزن الشديد والشعور بالوحدة، وعلي المستوي السلوكي يتجنب فهو منعزل يتجنب الأنشطة الاجتماعية، كما أشار الفيلم أيضاً لما يفعله الفقر والحاجة في الأفراد، يباعد بين الابن وأبيه، ويهجر الأب مسئولياته تجاه ابنه لعدم قدرته علي توليها، ويظل الأب هو الغائب الحاضر طوال حياة الابن، يحتل خياله حتي وهو بعد أن يطعن في السن، الأب المفقود هو السعي لما لا يدرك، ورغم أن العجوز يري أباه في هيئة الشباب إلا أنه يركض محاولاً اللحاق به، لأن العاطفة نحو ما فقده هي التي تسيره، ففي داخله يقبع الطفل الصغير المحروم من عطف والده وحمايته، وكم سيكون تأثير ذلك المشهد مضاعفاً لو نطق العجوز بكلمة" papai" أي بابا في اللغة البرازيلية، هنا سيتجلي سلطان الكلمة علي النفوس، لفظة بسيطة ستحدث تأثيراً كبيراً عندما تسمع في لحظة مشحونة كتلك، مع التصميم الرائع للشخصيات بإحساس المصمم  فيكتور هوجو المعروف بأعماله مع شركات كبري في عالم السينما كديزني ومارفل.

عبقرية الفيلم القصير جداً تكمن في قدرته علي معالجة موقفاً سريعاً أو حياة بأكلمها، عن طريق التكثيف الشديد الذي يتميز به، مما يعطينا وجهة نظر تأملية، فقلما نشاهد فيلماً قصيراً جداً ولا نفكر بعده في أبعاد طرحه للموضوع، فهو بارقة فكرية وعاطفية تجعلنا نعيد النظر في الأشياء العادية والمستهلكة في الحياة اليومية، لأنه يكشف عن جوهر أمور كثيرة تمر بنا ولا نتوقف عندها بينما يجب أو نتوقف عندها كثيراً، لأنها حياتنا التي غامت معانيها في خضم الاعتياد و المادية... الفن بصفة عامة يشبه القبعة السحرية في مسرحية"الطائر الأزرق لموريس ماترلينك، التي منحتها الجنية بريليون، للطفلين تيلتيل وميتيل لتفتح عيونهما علي حقيقة الأشياء التي تشكل ماهية العالم الذي يعيشان فيه.

التأثير القوي لفن الفيلم القصير جداً يستدعي بناء خاصاً، والبناء الفني لفيلم umbrella نموذجاً لفهم ماهية هذا الفن المراوغ. الإطار الزمني المحدود يحتم الاقتصاد في العناصر الدرامية الشخصيات، التفاصيل الزائدة كلها يجب بترها، والفكرة لابد أن تكون جلية ومركزة، فالأفلام القصيرة جداً لها قاعدة أساسية" الأقل هو الأكثر"، وقد عمل المعماري الألماني الشهير لودفيغ ميس فان وفق تلك القاعدة، والسيناريو السينمائي يشبه فن العمارة لحد كبير أو هو "فن معماري أكثر منه أدبي" علي حد تعبير المخرج إيليا كازان، هذه السمات نجدها حاضرة في الفيلم الذي لا عدد الشخصيات القليلة التي لا تتجاوز الطفل والطفلة والأم والمشرفة والأب وبضعة اطفال، وعبر فوتومونتاج سريع يكشف لنا ما يقتضي لفهم مدي بؤس حياة الطفل وأبيه، وحرمانهما من أبسط الملذات التي تتمتع بها الأسر العادية، والفكرة في مجملها تكمن في التعاطف مع الآخرين، وقدرة أي واحد منا أن يكون فارقاً بتفهمه وحنانه في مستقبل الآخرين، وعدم التسرع في الحكم علي الأفعال لأننا لا ندرك أبداً الدوافع الحقيقية وما يعانيه الآخرون ويؤثر في سلوكياتهم، كما أن الآخرين لا يعرفون دوافعنا الحقيقية، بل إننا أنفسنا في أحيان كثيرة لا نفهم ذواتنا وأسباب تصرفاتنا!

أما علي مستوي الحبكة فالحدث المحفز يحدث في الفيلم القصير جداً، بدء من اللقطات الأولي، وربما قبل بداية أحداث الفيلم، لأن الوقت المحدود لا يسمح بالإسهاب، ولقد ظهر الحدث المحفز المتمثل في المظلة منذ الثواني الأولي للفيلم، هذا الإيجاز السردي أهم ملمح علي الإطلاق، فهو عندما يثير في نفس المتلقي مشاعر صادقة بأقل الإمكانيات السردية وفي وقت قصير للغاية، فيجب علينا تقدير هذا الفن والاهتمام بصناعه، فالفيلم القصير جداً يتتبع شخصية واحدة، يتوحد معها المتفرج، فلا مفر من بنائها بتركيز شديد ليتعلق بها المشاهد في وقت محدود.

استخدم فيلم umbrella  تلك السمات المميزة للفيلم القصير جداً بحرفية مذهلة، وبني بها قصة مؤثرة وإنسانية لأبعد مدي، تعلق المشاهدون بها في كل مكان، فتمكن أن يبرز كأحد الأفلام الناجحة...كل موقف نمر به وكل شخصية نقابلها تصلح لتكون فيلماً قصيراً جداً يحمل بصمة فنية وإنسانية، إذا تمت معالجة فكرته مهما بدت بسيطة-بل كلما كانت بسيطة غدت أجمل- بصورة فنية صادقة ورؤية عميقة للنفس البشرية ومكان الفرد وسط عالم ممتلئ بالأحداث والشخصيات والمشاعر، تنتظر من يكشف عن عن جوهرها الخفي.




السبت، 13 سبتمبر 2025

دماء علي الوردة الصغيرة


دماء علي الوردة الصغيرة
مست أشعة الشمس الحانية وجه الجنرال ويكوب، في صباح يوم الثلاثاء ٣١مارس ١٨٠٧،لقد بدأت بشائر الربيع تهل وصفا الجو وسري النسيم محملاً بروائح الزهور، ركب جواده بصحبة العميد ميد ليلقي نظرة أخيرة من فوق تل أبو مندور علي مدينة رشيد النائمة في حضن النيل المتدفق في نعومة، تأملها وملأ صدره بالهواء وتنهد قائلاً لميد:
-يا لها من مدينة جميلة إنها حقاً روزيتا...وردة صغيرة.
ابتسم ميد:
-بعد ساعات قليلة ستكون تلك الوردة في عروة سترتك سيدي القائد، تزين بها تاريخك العسكري المجيد.
أعجبت كلمات المديح تلك ويكوب، فضحك ليداري قلقاً اعتمل في نفسه وهو علي التل ينظر للمدينة:
-لكن ألا تري إنها هادئة... هادئة أكثر من اللازم؟
بعد دقائق تقدم الجنرال صوب البوابة الغربية للمدينة، مرتدياً سترته العسكرية الحمراء وسرواله الرمادي، وجواده يصهل بتحد كأنه يعرف من هو فارسه، يحيط بع قواده وجنوده وعلي يساره النقيب بروس ينتفش غروراً، ففي سن صغيره تطأ أقدامه أرض مصر، وربما يعين قائداً للقوات الإنجليزية في يوم ما ومن يدري ليس بعيداً أن يدرس التلامذة في لندن سيرته الحربية في كتبهم المدرسية، ويتقدم الجميع جندياً أشقر الشعر قوي البنية يحمل بين يديه علم بريطانيا، وسار الموكب يقطع شارع دهليز الملك، وكلما تقدم في سيره يزداد الجنرال ويكوب قلقاً، وهو ينظر للقصور العملاقة والمنازل الضخمة ترتفع عالياً في شموخ، هنا يسكن علي بك السلانكلي حاكم المدينة وعثمان أغا قائد الحامية التركية مع أهالي المدينة، لم يكن ويكوب ببصيرته العسكرية يراها منازل سكنية، بل قلاع حربية ترتفع نحو السماء منذرة ومتوعدة، أبوابها مصنوعة من خشب سميك قوي، صهرت بداخله قطع من الحديد الصلب يزيدها مناعة واستحكام، ونوافذ الطوابق الأرضية مسيجة بأسياخ حديدية، أما النوافذ العليا فضيقة يستحيل اقتحامها من الخارج، وتلك المشربيات الجميلة المزينة بقطع الأرابيسك متقنة الصنع، في أسفلها فتحات تكشف من تحتها وتجعله هدفاً سهلاً... ومن جديد يلتفت فيري وجه بروس المغرور، وملامح بتروتشي القنصل الإنجليزي المتعالية، فوقف وأمر باستبقاء ٢٠٠جندي في عند مدخل المدينة، ولم يتحرك إلا عندما تأكد أنهم أخذوا مواقعهم، ورفع الجندي جون رأسه للنوافذ لعله يري امرأة حسناء تطل منها.
كلما توغل في المدينة نشر عدداً من الجنود، وكاد يسأل عن موعد استيقاظ أهل المدينة القنصل اللاهي بحديث ضاحك مع أحد الضباط سمعه يقول فيه:
-ألا يشبه ذلك نزهه علي ظهور الخيال في يوم ربيعي دافئ، داخل مزارعنا في إنحلترا؟!
لكن سرعان ما جاءه الجواب وهو يري عدداً من السقائين يملأون قربهم من مياه النيل، كي يبدأوا بتوزيعها علي المنازل، رجال نحيفة أحسادهم تنوء كواهلهم بالقرب الثقيلة، لكن في وجوههم السمراء صلابة غريبة، صلابة من صهرته الدنيا في نارها الموقدة فخرج يحمل في ضلوعه لهباً محرقاً مكبوتاً بين جوانحه، يحملون أثقالهم ويتغنون بصوت أجش منهوك من التعب، فأعاد له ذلك الصوت الممتزج بزقزقة العصافير بعضاً من الطمأنينة، وقال:
-إنها ليست إلا بلدة وادعة... أليس كذلك أيها الجنرال ميد؟
ضحك ميد وأجاب:
-أجل يا سيدي القائد، ولابد أن حاميتها قد فرت، إنني من الآن أتخيل احتفالات المساء الصاخبة.
كان الموكب العسكري قد مر علي جامع زغلول وكنيسة مار مرقص ووضع عندهما جنوداً للمراقبة والحماية، لم يستثن ركناً من المدينة الصغيرة فداست الأقدام علي كل شبر، فانتشر الجنود المدججين بالسلاح في دور العبادة والبوابة والبساتين ومبني الشرطة وقصر الحاكم والذروب الضيقة والشوارع المتعرجة، وسرح ويكوب في تلك المدينة الجميلة، التي تزوج منها الجنرال مينو أحد قواد حملة نابليون الذي سبقه في احتلال مصر، واختار زبيدة البواب لتكون قرينته، فهل يمكن أن يتزوج مصرية، ولاحت علي شفتيه ابتسامة حين مر به ذلك الخاطر.
قضت أوامر الجنرال ماكينزي فريزر باحتلال رشيد لتدعيم مركزه في الأسكندرية، ولضمان موارد الغذاء لسد أفواه الجند المفتوحة، ففصل ١٤٠٠جندياً عن قوة الحملة الكلية التي تفوق ٦٠٠٠آلاف احتلوا الأسكندرية دون قتال، بعد مفاوضات صورية مع حاكمها أمين أغا، بينما محمد علي والي مصر مشغول في الصعيد بمطاردة المماليك.
مع مرور الوقت وارتفاع الشمس في السماء، استنام الجند للراحة وتلهي البعض في الاستمتاع بجمال البساتين، ودون إنذار شق الصمت صوت قادم من مسجد زغلول ينادي" الله أكبر" فجفل الجنود وتأهبوا وارتجف بتروتشي، فهو يعرف أن ذلك ليس وقت صلاة، ولا يخرج النداء من المسجد ألا لأمر خطير، وبعد لحظات بدأت طلقات النيران تنهمر من النوافذ والأسطح، وانفتحت أبواب المنازل الصامتة فخرج منها الأهالي علي رأسهم حاكم المدينة علي السلانكلي المشهور بشجاعته يدافعون عن أرضهم بأي سلاح متاح لهم، فثخنت أجساد الإنجليز بالسيوف والحجارة والشوم، وبدأت معركة الشوارع، ركض إسماعيل الجزار حاملاً ساطوره وانقض به علي ملازم فقطع رأسه، وظهر من خلفه الفلاح القراري عبد الصمد يقبض علي منجله باحترافية يمزق جندياً يصرخ من الألم، والسلانكلي وبجواره عثمان أغا يصوبون نيران بنادقهم علي الجنود المنتشرة في المدينة، ورأي الجنرال ويكوب المدهوش العجوز جرجس خادم الكنيسة يخرج منها ويهجم علي النقيب بروس الذي قطع خده وينزف بغزارة، فعاجله بطلقة من مسدسه ارتمي جرجس علي إثرها جثة لا حياة فيها، وعرفت طلقة طريقها نحو الجنرال ويكوب، فسقط علي فرسه وهو يهمس"روزيتا... وردتي الصغيرة"، وطارت خوذة العميد ميد، ورفع مسدسه صوب امرأة تصب الزيت المغلي علي الجنود فأصابها وسقط من سطح المنزل فتكسرت عظامها، ثم أصيب بطلقة فكانت آخر كلماته قبل أن يسلم روحه صراخه في الجنود:
-أسكتوا صوت الطلقات... اقتلوهم جميعاً!
وحصدت حامية رشيد عساكر الإنجليز، لم يعد أمامها إلا القتال بعد أن أبعد صاحب خطة الهجوم وقائدها علي بك السلانكلي المراكب من علي الضفة، كي لا يجدوا منفذاً للهروب، وظل السلانكلي لساعات يقاتل ويدافع عن المدينة يؤجج الحماسة ويوقد النفوس حماسة وغيرة علي الأرض والمال والعرض حتي تقهقرت الحملة عائدة للإسكندرية عن طريق أبي قير وقد خسرت ١٧٠قتيلاً و٢٥٠جريحاً وأسر منها ١٢٠.
عند الظهيرة لم يبق من أثر المعركة إلا أنات الجرحي وبكاء النسوة والصغار من الفزع والخوف، والدماء تجري في الدروب وعلي أعتاب الدور، وبجوار البوابة وقف السلانكلي تومض في ذاكرته أحداث الليلة السابقة... التجهيز للمعركة... الاتفاق مع السقائيين علي التمويه... التحصن في البيوت... مراقبة معسكر الإنجليز... عرس أبو اليزيد الذي تأجل وقبل دقائق شاهد جثة العريس الشاب غارقة في الدم تبكي عليها عروسه العذراء... الطفل محمود هرست جثته سنابك الخيول الإنجليزية، وفي الأمس تردد غناؤه البهيج" ياعمي علي يا حاكمنا، بكرة تخرج الإنجليز من حتتنا" غمره التأثر وكادت دمعة تفر من عينه، فكبحها وتوجه نحو البوابة فأغلقها من الجديد، مرة أخري وللأبد.

الخميس، 11 سبتمبر 2025

الباقي من الحساب

 الباقي من الحساب

لم يمض عليه في العمل إلا أسبوعاً واحداً، وأصبح يشك أن في إمكانه الاحتمال إسبوعاً آخر، تعلم كريم من خبرته الضئيلة في الحياة كشاب لم يتخط العشرين، أن الأماكن في حد ذاتها متساوية... جدران وأركان وأسقف لا يتمايز مكان عن غيره، أما ما يجعلها مريحة أو قاسية فهم ساكنوها، ابتسامة دافئة تذيب الأوجاع في كوخ حقير تجعلك سعيداً كملك، ونظرة حقد في قصر فخم تكسر قلبك كعبد تلهبه السياط، وأخدت رأسه تدور بعشرات الأفكار المضطربة، لم يشوش عليها الضجيج المتواصل طوال النهار، في الشارع الذي يقع فيه محل عمله كبائع في أحد الحوانيت المكتظة بكل ما يخص الاحتفال بسبوع المواليد، لكنه تنبه أخيراً علي صوت صاحب المحل الخشن صائحاً:

ـكريم... لأ... اصح لحالك أناديك وأنت في عالم آخر، هل جئت لتسرح في الملكوت أم لتجري علي أكل عيشك؟!

مد خطاه ناحيته وقال بلهجة اعتذار مبطنة بخضوع، أتقنها من كثرة تنقله بين الأعمال المختلفة، ورغبته في التشبث بها:

-سامحني يا أستاذ علي... أوامرك.

-هات لي علبة حمص مقشر من الرف الأعلي.

ـحاضر.

أدرك منذ زمن أن الجميع يحبون من يخضع لسلطتهم، وبما أنه ليس له سلطان علي أحد فعليه أداء دور الخاضع.

سحب السلم الخشبي الثقيل، وصعد بجسده النحيل، وناوله ما أراد، ثم قفز علي الأرض، وانشغلا بوزن الحمص علي الميزان، حتي مرت بهما امرأة مسنة يغطي العرق وجهها، وطلبت بصوت متهدج ولسان ثقيل السماح بجلوسها علي الرصيف أمامهما لإرهاقها من مشوار طويل، مست كلماتها قلب كريم، إنها خاضعة مثله تعتمد حياتها علي ما يجود به من حولها من عطف، تجاهلها علي ولم يرد عليها، لكن كريم تاملها فوجدها متعبة حقاً، تنتظر كلمة وبعدها ستستريح وتتأوه من آلام جسدها المتعددة، ووعي أن عليه أن يفعل شيئاً سيسير علي منواله في حياته للأبد، نظر لعي فوجده استدار بجسده كله وتشاغل في شئ ما، ووجد المرأة مازالت عينيها الغائرة من بين التجاعيد معلقة به، قال وهو يعلم جيداً ما ستترتب عليه كلماته:

-اجلسي يا حاجة فالرصيف ملكاً للجميع... حمداً لله لم يشتره أحد.

استطار الغضب من عين علي وبدت عينيه الخصراءـ التي يفتخر بهاـ مخيفة وقبل أن يتكلم، خلع كريم قميص المحل الأخضر، وارتدي قميصه، بينما المرأة تجلس كما تخيلها تماماً، هبطت بثقلها علي الرصيف وللحظة استرد أنفاسها المسروقة من صهد الحرارة واللهاث من أجل بضعة مئات من الجنيهات، ولسانها لا يتوقف عن الدعاء له، اقترب كريم منه في ثبات وقال بصوت واثق:

-حقي أجرة أسبوع.

مد علي يده في الدرج وأخرج له ٥٠٠جنيه، وزعق بشراسة:

-لن تفلح في أي مكان، ولو عدت مرة أخري هنا معتذراً، لن تدخل هذا المحل حتي ولو قبلت قدمي.

أولاه كريم ظهره وهو ينظر له بجرأة أخرسته عن الاسترسال، واتجه ناحية الباب، شاعراً أنه تخلص من عبء ثقيل تآكل تحته قلبه قبل كتفيه، وخرج للشارع المزدحم بعشرات المتعبين والمتعبات الساعين علي رزقهم بكل السبل المقبولة والمنفرة، وهو عازم أن يبدأ مشروعه الخاص وألا يعمل عند أياً كان بعد اليوم، وسرعان ما غاب عند أول معطف.


الخميس، 4 سبتمبر 2025

كتاب حتشبسوت المرأة الفرعون... التاريخ والأسطورة

 


كتاب حتشبسوت المرأة الفرعون... التاريخ والأسطورة



عنوان الكتاب: حتشبسوت المرأة الفرعون

اسم المؤلفة: فوزية أسعد

اسم المترجم: ماهر جويجاتي

سنة النشر: ٢٠٠٣

عدد الصفحات: ٢٥٧

فوزية أسعد إحدي الكاتبات اللواتي سبحن في عوالم لغات أخري ليكتبوا بمدادها، ومع ذلك لم يتخلين عن جذورهن الممتدة في أرض وادي النيل، فجاءت كتاباتهن مزيج من دقة المنهجية العلمية الغربية، والقضايا المصرية حول الذات والهوية، صديقتها الكاتبة هالة البدري تحدثنا عنها في مقالة بعنوان" عن فوزية أسعد أكتب؛ رحلة صداقة وحوار وفكر وقراءة" منشورة في مجلة"أفكار" الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، عدد ٤٢٠،فتعطينا خلفية وافية عن تلك مؤلفة هذا الكتاب، فنعرف منها أن فوزية أسعد مصرية تفكر بالعربية وتكتب بالفرنسية، ولدت بمدينة القاهرة في شهر يوليو عام ١٩٢٩،لأسرة إقطاعية مسيحية وشغل جدها منصب رئيس الوزراء، درست الفلسفة في جامعة القاهرة، ثم سافرت عقب الحرب العالمية الثانية لتحصل علي الماجستير والدكتوراة من جامعة السوربون الفرنسية في الفلسفة الغربية، نشرت بالعربية كتاباً واحداً عن فيلسوف الوجودية كيرجارد، ترجمته هي بنفسها بعد ذلك إلي الفرنسية، واشتغلت علي أعمال نيتشه بعد ملاحظة ذكية، إذ رأت أن من يكتب عن ذلك الفيلسوف الألماني الكبير يفسر فلسفته بحسب مرجعياته الثقافية، فقرت أن تقيس فلسفة نيتشه بنفس الميزان، فماذا وجدت وجعلها تنتقل إلي دراسة علم المصريات؟ وجدت نيتشه الذي تأثر به فلاسفة القرن العشرين متأثر بفلسفة مصر القديمة.

وكتابنا الذي نحن بصدده نتاج لتجربة أدبية خاضتها المؤلفة، في رواية"بيت الأقصر الكبير" التي نشرها المركز القومي للترجمة عام ٢٠٠٤،فبطلتها سوسن"اسم عربي جميل سشن بلغة قدماء المصريين هذا اللوتس الذي يتفتح عند طلوع النهار، كما لو كان يشارك في ولادة الشمس" هي نسخة معاصرة لحتشبسوت، فأثناء بحثها الروائي عن شخصية الملكة حتشبسوت تراكمت المادة العلمية، إلي درجة دفعتها لاستغلالها في عمل كتاب عن تلك المرأة الشهيرة في تاريخ مصر.

الكتاب من ترجمة ماهر جويجاتي أحد المترجمين الذين نقلوا للسان العربية أعمالاً ممتعة ومفيدة عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة، قدم له أديبان رائعان أحدهما مصري والآخر فرنسي، أما المصري هو بهاء طاهر، وقلمه ليس غريباً عن عالم مصر القديمة، فقصة "محاكمة الكاهن كاي" في مجموعة "أنا الملك جئت، تستعرض مرحلة إخناتون الملتبسة، وفي تلك المقدمة التي افتتح بها الكتاب وعداً ضمنياً بقراءة عملاً ممتعاً، وتحفيزاً للقارئ علي الاطلاع عليه، فيقدم لنا الكاتبة علي أنها روائية ذات موهبة، وأستاذة فلسفة لها باع في مجالها، ويصف الكتاب بأنه عصي علي التصنيف، ويطلق طاهر اسئلته الخاصة التي أثارها الكتاب، رابطاً بين حتشبسوت ونفرتيتي لاشتراكهما في نهاية غامضة، إذ يسقطان من قمة المجد للاختفاء المريب، ولا جواب علي كل التساؤلات سوي بالظن والتخمين، فلا يوجد إجابة قاطعة تقدمها أوراق البردي أو نقوش الجدران، تهمس لأسماع التاريخ عن حقيقة ما جري للملكة التي حكمت مصر لأكثر من ٢٠عاماً، ويتمني أن تقوم الدكتورة فوزية باستخدام منهجها في الكشف عن دراما نفرتيتي التي حدثت بعد حتشبسوت، وستنفذ ذلك فعلاً في كتابها"الفراعنة المارقون" وسينشره المركز القومي للترجمة علي يد ماهر جويجاتي مترجمنا الذي يثني عليه بهاء طاهر، في ختام مقدمته.

النص الاصلية بالفرنسية قدمه الأديل ميشيل بوتور، بعين علي الدقة التاريخية وأخري علي الروح الفنية، عندما يستعير لسان حتتشبسوت من العالم الآخر من خلال تماثيلها المكتشفة بعد رحلة طويلة، لمعرفة الشخص الغامض علي نقوش الجدران المشار إليه بأفعال وأسماء مؤنثة.

الكتاب مقسم لتسعة عشر فصلاً، تتعدد فيه مستويات الكتابة-وذلك سبب استعصائه علي التصنيف في خانة محددة-فأحياناً نقرأ عن الأساطير المصرية المؤسسة لوعي المصري القديم، وتبحث الكاتبة عن السيرة الأسطورية لحتشبسوت، كما سجلتها في معبد الدير البحري أو جسر جسرو(قدس الأقداس) وارتباط تلك السيرة الأسطورية التي رسمتها حتشبسوت لشعبها وللأجيال القادمة، بطبيعة العقيدة الدينية للمصريين القدماء، الذين آمنوا بقيم حاكمة وأحداث تفسر طبيعة العالم وسلوكيات الحكم، سعت حتشبسوت للاندماج فيها، فهي ابنة الإله آمون ذاته كما تسرد قصة ولادتها الإلهية بعد تتويجها، واضعة نصب عينيها الرموز التي تشكل رؤية المصري القديم للعالم، وصاغت لنفسها حياة أخري علوية تتآلف فيها مع عالم الآلهة، وخاصة الأسطورة المصرية الكبري بأبطالها إيزيس وأوزوريس وحورس، التي تمثلها كل حكام مصر، فهو يمثل حورس المنتصر علي ست الشرير ليتربع علي عرش البلاد، وبذكاء شديد استغلت حتشبسوت ذلك لتصيغ لنفسها صورة الحاكم الفرعون، بعيدة عن كونها امرأة.

وعلي مستوي آخر نجد أنفسنا نتابع حتشبسوت الإنسانة، المنتمية لأسرة الملك أحمس العظيم، محرر البلاد من الهكسوس، جدتها الكبري تيتي شيري والدة سقنن رع تاعا الثاني الملقب بالشجاع الجسور، وقد حكمت البلاد بعد وفاة سقنن رع وكاموس أثناء كفاحهما ضد الهكسوس الغاصبين، ثم جاءت اعح حوتب اللاولي والدة أحمس، مارست سلطة الحكم وكان لها تقديرها الكبير في قلب ابنها والشعب المصري، تدلنا لوحة من عصر أحمس دون عليها قصيدة يلقيها أحمس البطل القومي العظيم، لتمجيد تلك الملكة المبجلة ويستحث الشعب لتمجيدها، لذلك ليس من المستغرب أن تكون نتيجة تلك السلالة ملكة حكمت البلاد بكفاءة لأكثر من عقدين كحتشبسوت:

"ارفعوا من شأن سيدة البلاد. سلطانة شطآن الـ"حاو نبوت".

التي ارتفع اسمها فوق جميع البلدان الجبلية(أو الأجنبية) 

التي تتخذ القرارات من أجل الشعب

زوجة الملك، أخت الملك، له الحياة والصحة والقوة

ابنة الملك، والدة الملك المبجلة

التي علي دراية بكل شئون البلد، التي توحد مصر.

لقد جمعت الوجهاء والأعيان وكفلت تماسكهم وترابطهم

لقد أعادت الهاربين وجمعت المنشقين.

لقد أشاعت السلام في الوجه القبلي ودحرت المتمردين

زوجة الملك،"إعح حوتب" لها الحياة".

طبيعة تلك الفترة تدفع النساء إلي مجابهة صعاب الحكم، فالرجال في معمعة القتال ضد الهكسوس الغاصبين، فعلي النساء أن يتولين مقاليد السلطة، ثم جدتها المباشرة أحمس نفرتاري التي تزوجت أحمس محرر مصر، وشاركته في الحكم لربع قرن، وشغلت أيضاً منصب الكاهنة الثانية لآمون ثم والدة حتشبسوت أحمس-اسم أحمس أطلق علي الرجال والنساء ومعناه"ولد القمر".... وكان ينبغي علي المؤلفة ذكر أخريات حكمن مصر في سلام ولم يكن هدفاً لمطاردة ذكراهن، هن الملكة نيت إيفرت في نهاية الأسرة السادسة، والملكة سوبك نفرو آخر حكام الأسرة الثانية عشر، وملكة أخري حكايتها تكاد تتطابق مع حتشبسوت هي الملكة سات رع في نهاية الأسرة التاسعة عشر، والتي طوردت ذكراها علي يد ست نخت مؤسس الأسرة العشرين المولود من زوجة غير شرعية كتحتمس الثالث. 

إنها الملكة التي ذكرها مانيتون (٤٨٤-٤٢٤ق.م) في سجلاته التاريخية عن مصر القديمة بطلب من بطليموس الثاني فيلادلفيوس، ورغم أن مدونانه لم يبق منها سوي شذرات متفرقة، إلا أنها مصدراً أساسياً لتاريخ مصر، وندين له بتحديد تتابع زمني وزع علي ٣١أسرة بشرية حكمت مصر، جاءت بعد حكم الآلهة للأرض، أشار لها مانيتون باسم" أمسيسيس" التي حكمت البلاد ٢١سنة وتسعة أشهر مع بداية الأسرة الثامنة عشر أولي أسرات الدولة الحديثة، حكمت مع أخيها تحتمس الثاني البلاد وكان ضعيفاً ومريضاً، مات وتركها وصية علي تحتمس الثالث الابن غير الشرعي للملك المتوفي، والذي سيصير أحد أعظم الملوك المحاربين في تاريخ العالم.

يقدر مانيتون حكم تحتمس الثاني بثلاثة عشر عاماً، وعلماء آخرون يراوحون بين سنتين أو ثلاثة، تولي الحكم وهو "صقر في العش" ذلك التعبير أطلقه المصريون علي الفرعون الذي يتولي مقاليد السلطة في سن صغيرة، وقام بثلاث حملات عسكرية الأولي في بلاد كوش(النوبة) عندما بلغه نبأ تمردهم، والثانية ضد بدو آسيا، والثالثة في سوريا. 

الفصل الثاني من حياتها بطله بلا منازع هو سنن موت الذي كان قبل تتويج حتشبسوت رجلاً صاحب كفاءة رفيعة، انخرط في الجيش قبل توليها الحكم بفترة طويلة ومن ألقابه قبل حتشبسوت:أمير، نبيل، خازن ملك الوجه القبلي وسميره، مدير القصر والبيت الكبير وأهراء آمون، والمشرف علي كافة الشعائر الإلهية، منحدر من أسرة متواضعة تننمي لمدينة أرمنت القريبة من طيبة تقدس الإله مونتو وربما كان له زوجتين ولم يرزق بولد، لأننا نري أخويه يتصدران النقوش، أحدهما مين حوتب يقوم بدور الابن علي مقبرته الأولي والثاني إمن إم حات يؤدي الشعائر الجنائزية. 

التصق سنن موت بحتشبسوت فكان بمثابة الرجل الثاني في المملكة ولم يتركان بعضهما حتي النهاية، بل وفي الحياة الأخري ظلا مع بعضهما، فقد ارتبط بحتشبسوت ومعبدها عن طريق مقبرته الثانية في الحرم المقدس لمعبد الدير البحري، حيث كان تخطيط مقبرتها ومقبرته واحد، يربطهما سرداب خفي تتقاطع حجرات ذات أربع زوايا، واسم حتشبسوت مذكور علي جميع جداران مقبرته، كما يظهر اسمه بحوار حتشبسوت أمام الإله، كل ذلك أشعل خيال الأجيال حول علاقة حتشبسوت بذلك الرجل العصامي الفريد، وللأسف لم تستفيض تلك المؤلفة في تحليل تلك العلاقة ولو فعلت لكان للكتاب وزن أكبر ذلك، إن تلك العلاقة هي المدخل لحكم وزمن حتشبسوت.

يعطينا الكتاب أيضاً لمحة عن دور حتشبسوت في إعلاء كهنة آمون، الذين ستتضخم ثروتهم وسلطتهم حتي زمن إخناتون الفرعون المارق، حين يحاربهم بكل أسلحته ويمحو كل ذكر لآمون لحساب إلهه الجديد آتون الذي جعله منفرداً بالعبادة، وعند وفاته سيعودون من جديد ويسترد الإله آمون مكانته والكهنة سلطتهم، فقد منحت الثروات والأراضي لكهنة آمون، ليساعدونها في الاستقرار علي العرش، ويرجع العلماء صعود كبير كهنة آمون لمكانته العالية في الحياة السياسية إلي عهد حتشبسوت فهي تصرح علانية" إنها تحب أباها آمون أكثر من سائر الآلهة إنها ابنته المولودة من صلبه، إن آمون يمنحها سنوات  حكم مديدة".

وتتساءل المؤلفة سؤالاً هاماً، هل كان عهد حتشبسوت حقاً عهد مسالم لم تنجر فيه لمعركة؟ وتتبين وجود معارك وردت في تقوش ومخربشات( المخربشات مدونات محفورة أو مرسومة علي صخور الجبال أو شقف الفخار)، وربما أزال تحتمس الثالث تلك المعارك من الذاكرة حتي لا تنافسه  الملكة المرأة في شهرته العسكرية الطاغية.

تستشف الكاتبة نهاية حتشبسوت الغامضة، فتؤكد أن الجيش قد فضل تحتمس الثالث عليها كما أن كهنة آمون لم يعودوا يساندونها، وبدأوا سياسة التقرب من تحتمس في الخفاء، والكاهن الثاني لآمون  بو إم رع يمثل ذلك الاتجاه السري، والآراء المتناقضة حول ما إذا كان لتحتمس الثالث يداً في وفاتها أم لا، والشائعات الدائرة حول تدبيره لثورة في القصر ضدها أة دفعها للانتحار، لكن هناك حقيقة واحدة في علاقتها بتحتمس الثالث، رغبته المحمومة لمحو اسمها من ذاكرة البشر وسجلات الأحياء، وتقول" يمكن صياغة أسبابها السيكولوجية أو السياسية بأسلوب روائي. ولكن النصوص لا توفرها لنا" وهكذا يحرمنا تدمير الآثار بالسلب أو السرقة أو التدمير المتعمد أو بأي طريقة كانت من المعرفة والبناء الجديد علي تلك المعرفة،  وتشير إلي حقيقة أن سلطان الكلمة في مصر القديمة كان عظيماً، ومن بين كل الكلمات يبقي للاسم قدرة البعث والإحياء، ولقد تضافرت كل الظروف لمحو اسم حتشبسوت وضياعه وبالتالي ضياع شخصيتها في تلك الحياة والحياة الآخرة، فما سلم من هجمة تحتمس الثاني علي تماثيلها، استخدمه الفلاحون كحجارة للرحي! وكان ذلك أيضاً نصيب سنن موت حيث لم ترحمه ضربات المطارق، والأيادي الممتدة للتشويه، وفي نفس تلك الرحلة التدميرية نصل إلي مخطة إخناتون المارق، عندما شن هجمته التاريخية علي معابد آتون بالمحو والتدمير، فاعتدي لي ذكري حتشبسوت معها كراعية للديانة وكهنتها.

وأحياناً نرتحل إلي الماضي القريب، نتتبع الأيادي  التي ساهمت في بعث اسم حتشبسوت من جديد، رغم كل ما حدث ليتوه اسمها في الضياع الأبدي، بدءً من عام ١٨٢٨لما اكتشف العالم الفرنسي شامبليون، اسم حتشبسوت خلف آثار تم تهشيمها، وحيرته وبلبته الكبيرة أمام ذلك الاسم المشار له بالضمائر المؤنثة، وحكاية أسرة عبد الرسول الشهيرة الذين اكتشفوا خبيئة الدير البحري، علي عمق ١١متراً حيث تراصت توابيت لأشهر فراعنة الأسرة الثامنة عشر والتاسعة عشر، بالإضافة لتوابيت أحمس والتحامسة من الأول إلي الثالث، وسيتي الأول وإعح حوتب نفرتاري وملكتنا التي ندور حولها حتشبسوت، وأشادت المؤلفة بفيلم المومياء للفنان شادي عبد السلام، ولها الحق في ذكره والإشادة به فلا يمكن فصل هذه التحفة السينمائية عن الحادثة الأصلية لاكتشاف خبيئة الدير البحري، التي تعتبر فتحاً في علم الآثار، وتوالت إسهامات علماء الآثار، فمارييت باشا أزاح الركام من علي معبد الدير البحري، ثم واصل نافيل عمل مارييت بإعادة تشكيل أحد جدران المعبد، وفي الكرنك اكتشفت بعثة أثرية مسلتين تختبئان عن العيون خلف أحد الجدران عليهما اسم حتشبسوت، ومع بداية القرن الماضي ظهرت أحجار مقصورة استراحة المركب المقدس التي بنتها حتشبسوت لأجل مركب الإله آمون رع، وعندما حل شتاء ١٩٢٢-١٩٢٣أزال ويلتوك النفايات في منخفض طبيعي إلي الجنوب الصاعد للمعبد، وناحية الشمال من نفس الطريق وجد المقبرة الثانية لسنن موت، وفي شتاء آخر ١٩٣٦-١٩٣٧عثر ويلتوك علي تماثيل متنوعة الأحجام بدت فيها حتشبسوت بابتسامة دافئة"تبعث الحياة في البدن".

تتمثل لنا حتشبسوت من خلال تلك الأبعاد الثلاثة، فنراها بصورة بانورامية، ونكتشف مع فوزية أسعد جزء من التاريخ المصري القديم، تاريخنا الحي والنابض في الوجدان رغم آلاف السنين التي تفصلنا عنه، وأحد الأدلة ذلك الكتاب المدون باحترافية علمية ومشاعر فياضة، من امرأة مصرية معاصرة تجاه جدتها الملكة الفرعونية.... لقد استطاعت فوزية أسعد أن تقطع تذكرة في قارب التاريخ، وتصحبنا معها لنتجول بين المعابد المحطمة والتماثيل المهشمة، والنصوص القليلة الباقية، ومع ذلك شاهدنا الكثير في كتابها هذا، وتعلمنا الكثير عن الحضارة المصرية القديمة، وكنا شهوداً  علي حكاية من أشهر وأخطر حكايات مصر التاريخية، حكاية ملكة اسمها حتشبسوت آمنت بنفسها وبقدرتها علي تولي حكم للإمراطورية المصرية في عالم يسوده الرجال، ومع ذلك استطاعت المكوث في الحكم لفترة طويلة، وحين أراد تحتمس محو ذكراها، انبعث  من جديد أقوي وأظهر مما كان، واقترن اسماهما للأبد! بل أصبحت الذاكرة الشعبية المعاصرة تحفظ اسمها  أكثر مما تحفظ اسمه، لقد سمعناها في أغنية شهيرة علي شاشة السينما المصرية، ويضرب بها المثل في القدم والعراقة...إنه كتاب ضروري لكل من يريد الاقتراب من الحضارة المصرية وهواة القصص التاريخية وكل من تهفو نفسه للعيش بعض الوقت مع أجدادنا القدماء.... يتأمل ويتعلم.











الأحد، 31 أغسطس 2025

آخر حاجة لبعض

 










آخر حاجة لبعض

سيناريو وحوار: محمود قدري



























الملخص: في خضم مشكلات وباء كورونا يستعيد زوجان شابان عاطفتيهما المفقودة رغم الضغوط المادية والنفسية


م/١          شقة أحمد  (الصالون)        ن/د


ـ شقة بسيطة صغيرة الحجم، ولكنها نظيفة ومرتبة تنم عن ذوق في الألوان والاثاث، جهاز مفتوح علي نشرة أخبار تتلو أخبار وتحذيرات مرض كورونا، علي خلفية الصورة الشهيرة لعداد الضحايا والمصابين المتزايد... أحد أيام الصيف الحارة. 

-أحمد(٣٠عاماً)يجلس علي أريكة يتكلم في الموبايل. 


أحمد( ملهوفاً) :آلو... أيوة ياحسين، عملت إيه؟ 

ص. حسين :كلمتلك المدير وقالي الدنيا مزنوقة معاه(معتذراً) معلش يا أحمد الشغل واقع والله أنا خايف يمشوني أنا كمان. 

أحمد(مايزال متعلقاً بالأمل) :والنبي يا حسين تشوف لي أي شغل معاك، أنا بقالي اسبوع قاعد من ساعة المحل اللي كنت فيه ماصفي وصاحبه قفله. 

ص. حسين: أنا مش عايز وصاية يا أحمد...هاتفرج بعون الله وتتعدل.

أحمد: كله علي الله... روح انت بقي مش عايز اعطلك، سلام. 

-يفتح علبة السجائر فيجدها خالية، يسحقها بقبضته ويلقيها علي الأرض في غيظ. 

ـ تخرج منة(٢٥عاماً) من ناحية المطبخ، وتتوجه لحجرة أخري، وهو يرمقها بنظرة جامدة، يكتم صوت التلفاز. 


قطع












م/٢          المطبخ         ن/د


ـالطعام المكون من أرز وخضار بدون لحم  يشيط. 





قطع























م/٣          الصالة          ن/د


-أحمد يتمدد علي الأريكة في إحباط يمسح جبينه المتعرق من الحر، يتشمم الهواء ويقوم مفزوعاً ناحية المطبخ. 






قطع




















م/٤          حجرة النوم          ن/د



     ـ طفل رضيع ممدد علي السرير، وعلي الحائط صورة زفاف أحمد ومنة وهي تشع بنظرات الحب الصادق، منة بجوار الطفل نعد عدد الحفاضات القليلة المتبقية، ثم تفتح حقيبتها فلا تجد فيها سوي ٥٠جنيهاً،تمسكها بين أصابعها في هم وقلق، ثم تسمع صوت أحمد يصرخ في غضب.


ص. أحمد:منة! حرقتي الأكل!







قطع














م/٥          الصالة          ن/د


ـأحمد يقف متحفزاً وسط الصالة، في غاية العصبية الغضب، لقد قرر أن يخرج غضبه من نفسه ومن الدنيا في منة.

أحمد:سيبتي الاكل عالنار وروحتي فين؟

منة:كنت بغير لآدم وسهيت جوه في الاوضة.

أحمد: يا سلام سهيتي؟! سهيتي يبقي يتحرق البيت، عايزة تولعي فينا؟!

منة: إيه الكلام ده يا أحمد!وإيه الطريقة دي!

أحمد: مش ده اللي حصل؟! مش شامة ريحة الشياط؟ (بغرور الضعيف) لولايا كان زمانا ضعنا.

منة(تنهار باكية) :وأنا اللي هاتضيعك مش كده! شايلة البيت كله علي دماغي، وبغزل برجل حمار عشان نعيش، حتي حزني علي أمي اللي لسه ميتة بقي لها تلات شهور كاتماه عشان مازودتش المواجع، تعبت، مابقاش عندي طاقة والله العظيم.

أحمد(ثائراً) :قصدك أني خلاص بقيت عبء عليكي!

منة: أناني... مش بتشوف غير نفسك وبس، أنا اشيلك فوق دماغي العمر كله، وماقولش الآه حتي بيني وبين نفسي، وانت عارف كده.

احمد يبدو عليه التأثر، ويحاول قول شئ ما لكن لا يجد ما يقوله. 

منة(تضع وجهها بين كفيها) :كابوس... أنا حاسة أني في كابوس، مش عارفة هاصحي منه امتي؟

-نسمع صراخ الطفل الرضيع آدم، تقوم منة متحاملة علي نفسها، ينظر احمد لها نظرة حانية. 

أحمد : رايحة فين؟ 

منة: هارضع الولد. 

تذهب منة وتترك أحمد يقف وحيداً. 



قطع







م/٦          المطبخ          ن/د


-يزيح أحمد الطعام المحترق، ويبدأ في إعداد وجبة أخري، بحركات خرقاء لرجل لم يتعود التواجد في المطبخ كثيراً، يبحث عن الطعام في الأدراج، ويمسك الادوات بطريقة خاطئة، تدخل منة فتفاجأ بقيامه بإعداد الغداء، تبتسم ابتسامة خفيفة تغير من ملامح وجهها، يراها أحمد فيبتسم هو الآخر، ويكاد يوقع حلة بيده وهو يضعها علي الرف. 

أحمد: قولت أخف أنانية شوية

منة: مكانش قصدي أنا

ـيقاطعها وقد عاد ألي رشده. 

أحمد: منة أنا عارف أن الدنيا مهدودة كأننا بقينا عايشين في عالم تاني مختلف، ظروفنا متلغبطة وأيامنا بايظة، مفيش فلوس ولا شغل ولا طمأنينة، ولا عارفين بكرة هانصحي علي ايه....بس احنا آخر حاجة باقية ومش هاسمح إني أخسرك أو إنك تخسريني. 

ـتحتضنه منة ويحيطها بذراعيه بحنان.... يرن جرس موبايل أحمد. 



















م/٧         الصالة          ن/د


-أحمد يرد علي الموبايل. 

أحمد: أيوة يا ابراهيم... بجد؟ 

-يشرق وجه أحمد. 

أحمد(مناديا) :منة


ـتظهر منة وفي يدها كبشة غرف الطعام. 


أحمد: لقيت شغل، إبراهيم جارنا لسه مكلمني. 

منة(منة غير مصدقة من فرط الابتهاج) :بجد يا أحمد؟! 

أحمد: أيوة ونازل له دلوقت قبل الحظر ما يبدأ. 

-يتجه أحمد للباب ويفتحه، بلتفت لها باسماً. 

أحمد(مازحا) : اوعي الاكل يتحرق! 

منة: متخافش مش هاسهي عليه تاني

-يلوحان لبعضهما ويتبادلان الابتسام، يخرج أحمد ويغلق الباب خلفه، وتتجه منة للمطبخ في سرور وحماس، وتنتقل الكاميرا للتلفزيون ذو الصوت المكتوم لنراه يعرض مشاهد أنور وجدي وفيروز وهما يتجولان في الشوارع في استعراض معانا ريال. 



النهاية




السبت، 10 مايو 2025

آدم حنين سؤال وجواب

 1-ما هو الحي الذي نشأ فيه آدم حنين؟

حي باب الشعرية. 

2-ما الذي تعلمه آدم حنين من زيارة المتحف المصري؟

تعلم النظر إلي الأشياء، ووجدت عينه طريق الرؤية. 

٣- كم عام عاش آدم حنين في قرية القرنة بالأقصر؟

عامين. 

4- ما الذي ألهم آدم حنين لوحة البشارة؟

منزل ريفي بسيط رآه في قرية القرنة بالأقصر، علي واجهته غزالة معلقة.

٥-ماذا قالته الرسامة غابرييل مونتر، لآدم حنين، أثناء زيارتها للمعرض الذي أقامه في ميونيخ؟

إنه لن يجد في بيئة الغرب مايغني تجربته، وأنه من الأفضل ألا يتأثر بأعمال الأوروبيين.

٦- اذكر واحداً من الأعمال التي أنجزها آدم حنين أثناء تواجده في جزيرة "الفنتين"؟

رجل يشرب من القلة.

٧- ما هي أهم أعمال آدم حنين مع الشاعر صلاح جاهين؟

رسومات لمرافقة "رباعيات صلاح جاهين" في مجلة" صباح الخير".

8-من هو المهندس المعماري الذي صمم منزل آدم حنين بالحرانية؟

رمسيس ويصا واصف.

٩-في أي عام أقام آدم حنين معرضه في بيت السناري؟

عام ١٩٦٦.

١٠- ما هي أسباب سفر آدم حنين إلي باريس؟ 

نكسة ١٩٦٧،حينها كانت الأجواء مشحونة والناس كانت معبأة باليأس والهزيمة، فلم يستطع الاستمرار في هذا المناخ. 

١١- كم عام مكث آدم حنين بفرنسا؟ 

٢٥عاماً. 

١٢-في عام أنشئ سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت؟ 

١٩٩٦.

١٣- متي بدأ ترميم تمثال أبو الهول؟ 

١٩٨٩.

١٤-متي بدأ تأسيس سمبزيوم أسوان الدولي لفن النحت؟ 

١٩٩٦.

١٥-متي بدأ آدم حنين في إنجاز مشروعه الشهير"السفينة"؟ 

٢٠٠٠.

١٦-متي بدأ إطلاق الدورة الأولي من جائزة آدم حنين لفن النحت؟

٢٠١٦

١٧- أي خامة يفضل آدم حنين استخدامها؟ 

الفحم والنسيج

١٨- هل يختار آدم حنين موضوعات أعماله بناء علي تأثير الفن المصري أم أن هذا التأثير يظهر بشكل غير مقصود؟ 

حضور الفن المصري في أعماله يأتي دون قصد، وبغير افتعال، لأن هذا الفن صار جزءً من تركيبته النفسية والشخصية. 

١٩-كيف تؤثر الثقافة والخبرة الحياتية في رؤية الأشكال والتفاعل معها وفقاً لآدم حنين؟ 

يري آدم حنين أن الأشكال ترتبط في أذهاننا بكثير من الانفعالات الني نحس بها وتذكرنا بلحظة الرؤية، فكل إنسان يتذكر شيئاً مختلفاً عن الآخر، وكل شخص لديه تصوراته ورؤيته حسب ثقافته وخبرته. 

٢٠- ما هو العمل الفني الناجح من وجهة نظر آدم حنين؟ 

العمل الذي يشبه لقاء جديداً بالجمال والإدراك الذي يثير الدهشة والرغبة في التأمل العميق. 

٢١- ما هي الخصائص التي تجعل البومة كائناً منفرداً في نظر آدم حنين؟ 

يري آدم حنين البومة كائناً غريباً ومثيراً جداً، فرغم ما تثيره في نفس البعض من شعور بالتشاؤم إلا أنها شديدة التفرد، تظهر ليلاً وتختفي نهاراً ومعبرة عن العزلة بشكل ما. 

٢٢- ما هما القطبان المتناقضان في جوهر الفن المصري؟ 

هما الكتلة والخفة، إن جوهر النحت المصري القديم هو المهابة والرقي وصلابة وخفة التمثال أو المنحوتة، وهاتان الصفتان هما اللتان أعطتا الفن المصري شكله الذي يبدو بسيطاً إنما سحيق وعميق الأغوار. 

٢٣-ماذا كان دور صلاح مرعي في سمبوزيوم أسوان؟ 

كان مسئولاً عن ترتيب المنحوتات الجرانيتية المعاصرة المعروضة بالمتحف المفتوح بأسوان، وحافظ علي الطبيعة الجبلية للأماكن، مفضلاً جمال المناظر الطبيعية. 

٢٤-ما الذي يجعل تجربة آدم مع البردي مثمرة؟ 

ورق البردي مادة مدهشة، مادة تجمع بين الحجر والخشب، فيها نوع من الدفء جعله مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً، كانت علاقته بمادة البردي مثمرة للغاية، لأنها كشفت عنده مخزون ثقافي وروابط ماض مازال يتحرك في داخله. 

٢٥-في أي عام افتتح متحف آدم حنين؟

٢٠١٤ 

٢٦- في أي مجلة كانت تنشر رباعيات جاهين ولوحات حنين؟

مجلة روز اليوسف. 

٢٧- من الذي نظم عرض أعمال آدم حنين بقاعة العرض الدائمة بمكتبة الأسكندرية؟ 

 صلاح مرعي. 

٢٨- ما الذي دفع آدم حنين لإطلاق مسابقة" آدم حنين لمراحل التعليم ما قبل الجامعي"؟ 

إيماناً منه بأهمية دعم وتشجيع النشء علي ممارسة الفن التشكيلي كوسيلة للتعبير عن النفس. 

٢٩- في أي عام أطلقت مؤسسة آدم حنين مسابقة قريتي؟ 

٢٠٢٢


٣٠ – ما الذي يميز فن النحت من وجهة نظر آدم حنين؟ 

يري أن فن النحت أكثر ارتباطاً بالطبيعة، كما أن له علاقة مباشرة مع المتلقي، عكس الرسم أو التصوير، لكنه فن يحتاج إلي الصبر والتأني، فهو يجلس أمام العمل لساعات طويلة

 




أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟

 


أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟ 

كل فيلم لكريستوفر نولان بمثابة بئر عميق للأفكار الفلسفية المثيرة للنقاش، وتحفيز العقل علي التأمل، منذ انطلاقته الأولي بفيلم Follwing  ذو الميزانية المنخفضة للغاية(٦٠٠٠دولار)1998،، حتي فيلم أوبنهايمر ٢٠٢٣ الذي تكلفت صناعته ١٠٠مليون دولار ومثلهم للتسويق والدعاية، إن رحلته السينمائية عبارة عن اسكتشاف للحياة والنفس، البحث عن نغمة الزمن الغامضة، في سيمفونية الكون العظمي.

في عام ٢٠٢٤فاز نولان لأول مرة بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلم أوبنهايمر، الذي توج بست جوائز إضافية من إجمالي ١٣جائزة رشح لها، نال منها جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثل دور رئيسي لكيليان مورفي، عن أدائه لشخصية أوبنهايمر ليصبح أول أيرلندي يفوز بتلك الجائزة، وأفضل ممثل مساعد لروبرت داوني جونيور عن دور لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية الأمريكية بين عامي ١٩٥٣و١٩٥٨، وأيضاً أفضل مونتاج، أفضل تصوير سينمائي وأفضل موسيقي تصويرية.

قبل ذلك بأربع سنوات وتحديداً في شهر ديسمبر من عام ٢٠٢٠أعلنت شركة وارنر برذرز للإنتاج السينمائي، عن خطة لإصدار أفلامها في دور السينما وعلي منصة HBO بشكل متزامن، وكان نولان يتعاون مع تلك الشركة العريقة منذ فيلمه Insomina ٢٠٠٢،فانزعج بشدة من هذا القرار، لأنه من أكبر المدافعين عن السينما بشكلها التقليدي التاريخي، حيث يجلس المشاهد في دور العرض يكتنفه الظلام، وأمامه الشاشة العملاقة ليبدأ سفره الروحي في عالم الفن والأحلام، وأدي ذلك القرار لهجرته لشركة يونيفرسال لإنتاج وتوزيع الفيلم، بشروط خاصة فرضها نولان، فبالإضافة لبند الميزانية الضخم طلب عدم عرض أي فيلم جديد للشركة المنتجة لمدة ثلاث أسابيع قبل وبعد صدور الفيلم،وتم الموافقة علي كافة طلباته مما يعكس مدي أهمية نولان في صناعة السينما الأمريكية، بل أن بعض الممثلين الذين ظهروا في الفيلم خفضوا من أجورهم للعمل في الفيلم كروبرت داوني جونيور ومات ديمون وإيملي بلانت، فحصل كل منهم علي٤ملايين دولار، مقابل أجورهم المعهودة التي تترواح بين ١٠ و٢٠مليون دولار، والأغرب إن عملية اختيارهم كانت سرية للغاية، لدرجة أن منهم من لم يعرف أي دور سيؤديه بعدما وافقوا علي عقد الفيلم، لثقتهم الكاملة بمهارات وكفاءة كريستوفر نولان، الفنان القادر علي الانتصار لماهية السينما الحقيقية، في ظل مخاطر تكنولوجية رهيبة تقدم الزيف بدلاً من الصدق الفني، وآمن بالجمهور العاشق لذلك الفن، فلم يخذله وتوافد من كل أنحاء العالم علي قاعات العرض السينمائي مخصصاً جزء من يومه وروحه ووجدانه ليهبه للشاشة الفضية، لأن السينما كما يفهمها نولان وهو محق مائة بالمائة، تجربة سمعية وبصرية يتشربها وعي المشاهد ولا مكان لهذه التجربة سوي دور العرض وإمكانياتها المجهزة لذلك، وبعد وقت قصير أصبح أوبنهايمر جزء من الثقافة الشعبية في العالم

بدأ نولان كتابة الفيلم في بضعة أشهر، عقب انتهائه من العمل علي فيلمTenet ولم يكن ذلك الوقت القياسي مفاجئاً، فنولان يفكر في عمل فيلم عن أوبنهايمر منذ سنوات طويلة، فعندما كان في الحادية عشرة اندلعت احتجاجات ضد الأسلحة النووية، فعرف منذ طفولته خطورة السلاح النووي، وامتلأ قلبه بالخوف من احتمال نشوب حرب نووية تفني الجميع، وفي شبابه أصدر المغني البريطاني ستينغ أغنية عام ١٩٨٥تنتقد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ظلت كلماتها عالقة في ذهنه خاصة عبارة"كيف أنقذ ابني الصغير من لعبة أوبنهايمر المميتة؟!" ظلت تلك الأفكار تموج في طيات وعيه وبين تلافيف دماغه لعهد طويل من الزمن حتي ربطها بفيلمه الأخير، ويري نولان أن طببعة تتصورنا للسلاح النووي تغيرت مع مرور الوقت، لكن من المستحيل ألا نتوقف عن الخوف منها، واعتبر أن الغزو الروسي لأوكرانيا عام ٢٠٢٢جرس إنذار مخيف أعاد للبشرية الرعب من التهديدات النووية.

منذ المشاهد الأولي يجد المشاهد نفسه في خضم فوران حياة أوبنهايمر العاصفة، إنه يحاكم بطريقة ما وإن بدا الأمر غير ذلك، هو نفسه يحاكم نفسه كما تعبر عينا مورفي بعمق، يحاكم ذاته، ماضيه، علاقاته، ذنوبه، أو علي الأقل يبرر حياته كلها علي حد قول شتراوس، غريمه الذي أوقع به كي يتم سحب تصريحه الأمني بسبب ميوله الشيوعية، يشرح مونتاج رشيق ومباغت يعتمد علي تركيز المشاهد حياة أوبنهايمر، وبطريقة نولان في السرد غير الخطي الذي تميز بها، يستعرض عبر ٣ساعات ظروف مشروع مانهاتن الحاضن للقنبلة الذرية، وما جري بعده، بين وجهتي نظر أوبنهايمر-شتراوس،، الأمر الذي سيجعلنا نطرح أسئلة عديدة طوال الفيلم، كما يبتغي نولان بالضبط من أعماله"أنا لا أصنع أفلاماً لأبدي وجهة نظر، أصنعها لأطرح الأسئلة المثيرة وأقدم تجربة مشوقة للجمهور أتمني أن تبقي في ذاكراتهم" من تلك الأسئلة المطروحة وتاهت في خضم جدل جناية أوبنهايمر علي البشرية أو إنقاذها من مجازر قاسية كانت ستحدث لولا سلاحه الرادع، سؤال ماهي الحقيقة؟ إن شتراوس أبغض أوبنهايمر وسعي في النكاية به، لأنه" ظن"قيام أوبنهايمر بتأليب العلماء عليه، بدليل تجاهل أينشتاين له بعد لقاؤه بخصمه، وهو ما أثر في نفسيته بعمق، فشتراوس في المقام الأول مجرد موظف بيروقراطي يحيا بين ألمع عقول علم الفيزياء، وزاد من حقده غرور أوبنهايمر في حديثه معه، وسيتجلي في الختام أي وهم بني عليه شتراوس موقفه-ثنائية الخيال والحقيقة أحد عناصر فن نولان خاصة في فيلم prestige – فأينشتاين وأوبنهايمر أثناء وقفتهما بجانب البحيرة، لم يذكرا شتراوس قط، بل كان حديثهما حول الدمار والخراب المهيمن علي العالم بفعل السلاح الذري، ما جعل أينشتاين يغوص في أفكاره الداخلية، دون إحساس بوجود شتراوس، وقد ترك أوبنهايمر وحيداً حيراناً لا يدرك هو الآخر ماهي الحقيقة، هل ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح أم رسم لها طريق الهلاك؟!

العلاقة بين أوبنهايمر وشتراوس استلهمها نولان، من علاقة موتسارت وسالييري كما صورها فيلم أماديوس للمخرج ميلوش فورمان ١٩٨٤، وتبين حقد الرجل المديوكر علي عملاق منحه الله موهبة لا تجاري، فيجد نفسه ازدادت صغراً ووضاعة، وتولدت فيها جراثيم الحقد والبغضاء، فتنسج  السوداوية الحيل والمكائد للنيل من الرجل العظيم، الذي صفع كبرياؤه كاشفاً له عن حجمه الحقيقي، وهو يلقي بظله الممتد علي روحه فتتسسمم للأبد، ويسعي للانتقام المدمر كي يرضي روحه المنكسىة دون قصد علي الإطلاق، إلا مواجهتها بالحقيقة المريرة، وأي الرجال في عالمنا يحتمل لذعة مرارة الحقيقة؟!

يبدو أوبنهايمر في ذلك العمل شبيهاً بالطبيب فيكتور فرانكشتاين، خالق الوحش الذي يطارده طوال الرواية التي ألفتها ماري شيلي في القرن التاسع عشر، ويناديه"أبي" ويوصف أوبنهايمر أيضاً بأبو القنبلة الذرية، التي أصبحت هي الأخري وحشاً يطارده نفسياً، منذ بداية انطلاقها في رؤي من وحي خياله، من ضمنها المشهد المخيف لفتاة ينسلخ وجهها وهي تصفق له، هذه الفتاة هي فلورا ابنة كريستوفر نولان، في تلك اللقطة تداخلت الحياة الشخصية لنولان برؤيته الفنية، كأنه يريد القول أن خطر السلاح النووي يتهدد أبنائنا وكل ماهو عزيز علي قلوبنا.

لقد ارتبطت قوة أوبنهايمر في الفيلم بمنحني صناعة القنبلة، كي تصل أمريكا لصناعة القنبلة النووية قبل ألمانيا النازية بزعامة هتلر، وعند اكتمال جاهزيتها، تتلاشي قوته بالتدريج، بعد أن كان قائداً تكفي إشارة منه، الأكثر من ذلك أنه يصبح محل شك من قبل السلطات، وغير مرحب به علي الإطلاق في أروقتها، لدرجة أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان كما جسده جاري أولدمان في مشهد واحد مؤثر وحقيقي لأبعد مدي، يمنع دخوله لمكتبه مرة أخري ويطلق عليه"البكّاء" بعدما تحكمت فيه عقدة الذنب ورأي الدماء تلطخ يده... الوحش يعذبه ويطارده، ويبلغ ذروة رعبه حين يري في المشهد الأخير كابوس تعرض الأرض لخراب نووي شامل، انفجارات في كل مكان ووهج القنابل يخفي تحته نهاية العالم.

الرغبة في تجربة القنبلة التي دافع عنها أوبنهايمر، إحدي مواقفه المتهورة كما أوضح الفيلم طبيعة سلوكه، عندما حاول تسميم أحد أساتذته، أم رغبة في إثبات الذات، أم فعلاً محاولة لدفع شر أكبر كان ليحدث لولاه؟... الأكيد أن في تلك اللحظة ساطعة البياض أثناء تجريب القنبلة في لوس ألاموس، أدرك أوبنهايمر أن سلاحه الجديد  سيغير من شكل العالم للأبد، فكان أول ما طفي علي وعيه عبارة من كتاب الباهاغافاد غيتا الهندوسي"الآن أصبحت أنا الموت مدمر العوالم. لم يعرض نولان شخصية بطله بعين أحادية إما أبيض أو أسود بل فتح جراحه ليري مدي تعقد صراعه الداخلي، محاصراً بخيارات صعبة، ويتردد من جديد تساؤل شتراوس عن طبيعة أوبنهايمر كرجل وكعالم" العبقرية ليست ضماناً للحكمة، كيف يمكن لرجل عرف الكثير أن يكون أعمي لهذا الحد؟"، يعترف نولان"إن فكرت في أكثر الشخصيات غموضاً التي قدمتها، فبالتأكيد أوبنهايمر هو الأكثر غموضاً وازدواجية، ومع الأخذ في الاعتبار إنني مخرج ثلاثية باتمان فهذا يعني الكثير".

الملمح البارز للفيلم تركيزه علي الوجه البشري، فنحن لا نري معظم الوقت سوي وجوه ترتسم عليها مشاعر، وشفاه يخرج منها حوارات تشكل الركيزة الأساسية للبناء الدرامي كله، مما يعيد للأذهان تحفة سينمائية أخري بنيت علي الحوار بعنوان  12 angry menيطالعنا دوماً الوجه للبشري في كل مشهد، علماء وعسكريون وسياسيون، يعلق علي ذلك مدير تصوير الفيلم هويت فان هويتما"منذ البداية أدركت أن ذلك الفيلم سيكون عبارة عن وجوه، وذلك تحد كبير بالنسبة لنا، في الأفلام الأخري كنا نعتمد علي اللقطات الكبيرة، أما هذا الفيلم فهو يغوص للداخل حول المشاعر والتعبيرات والوجوه والذاتية" من بين تلك الوجوه والتعبيرات تتشكل مرحلة مصيرية من تاريخ البشرية، استغلها نولان جاعلاً من كل مشهد ذروة في حد ذاته، عن صراعات نفسية وعلمية وسياسية وأخلاقية صهرت مواقف ومصير أوبنهايمر.

سواء كان سليل برومثيوس سارق النار من الآلهة ليهبها لبني البشر كي تقوم عليها حضارتهم الجديدة وعاني من انتقامهم حيث وكل به نسر يأكل كبده، ثم ينبت له كبد جديد وهكذا، كما في الأسطورة اليونانية، ومعني اسمه"الفكر المتقدم" كما أشار الفيلم لذلك، أو فيكتور فرانكشتاين الهارب من وحش صنعه، يظل فيلم نولان عملاً إبداعياً يستحق التتويج بالجوائز، وأغلب الظن إنه سيصبح عتبة لهوليوود كي تقدم سير العلماء وما في حياتهم من دراما بطريقة مبتكرة، بعدما رأينا في فيلم أوبنهايمر ساحق النجاح حشد ضخم من علماء الفيزياء جذبوا جمهور السينما يتصدرهم أوبنهايمر ولعبته المميتة. 


الأحد، 27 أبريل 2025

رمضان بالصوت والصورة

 رمضان بالصوت والصورة


لهلال هذا الشهر هيئة مختلفة، إنه يبزغ في السماء كعلامة علي بداية أجواء جديدة، تقطع التسلسل العادي للحياة، وتدب في القري والمدن روح جديدة غير معهوده، إنه الزائر السنوي الذي يمد يده بالرحمة والبركات والبهجة، وسرعان ما يحمل عصاه ويرحل علي وعد بزيارة قادمة بعد ١٢ شهر بالتمام والكمال.

تتسامي الروح في ذلك الشهر الكريم ويبدو باب السماء قريباً للغاية من العالم الأرضي، ربما لأننا ننسي الدنيا إلي حد ما وننهمك في العبادات، فتمتلأ المساجد بالكبار والصغار، وتكثر الصدقات ويهنئ الكل بعضهم بحلول رمضان، وتبدأ تجربة بصرية-سمعية في غاية السرور والإمتاع، تشحن ساعات النهار أغنيات رمضان المعتقة بروح الماضي والفن الأصيل،وكلما بعد بها الزمن نكتشف كم هي رائعة، ومن المستحيل مجاراتها في إمكانياتها الإبداعية أو بما تثيره من شجون وذكريات، فأغنية"رمضان جانا" من ألحان محمود الشريف وكلمات الشاعر الغنائي حسين الطنطاوي وغناء محمد عبد المطلب المذاعة في عام ١٩٤٣،بمثابة البيان الشعبي لاستطلاع هلال رمضان وإشارة البدء بطقوس رمضان بمقدمتها الموسيقية العبقرية، والأداء الغنائي المتمكن، وكلماتها السهلة الممتنعة، فحين تسمع في البيوت والدروب، فالوقت قد حان لتعليق الزينة وشراء اللازم من خزين رمضان وحلوياته، وتستنير الشوارع بالأشرطة الملونة والأضواء، ويدعو الجو الكرنفالي الحميع للسعادة، وتكتمل المرحلة الغنائية بـ"وحوي يا وحوي" للمطرب أحمد عبد القادر، المقتبسة من التراث المصري القديم، وكما يتم استقبال رمضان بالغناء نودعه أيضاً بالغناء، عندما تعلن شريفة فاضل اقتراب عيد الفطر حين تشدو "تم البدر بدري والأيام بتجري" ثم تؤكد علي مفارقة يختص بها شهر رمضان ألا وهي كونه"هالل بفرحة ومفارق بفرحة" ولا أعرف شهر سواه يهب الفرحة في  عند قبوله وإدباره إلا رمضان.

ونفس الشوارع التي كان يعمها الضجيج وتمتلأ بالزحام في النهار، تكاد تخلو مع أذان المغرب من الحركة، فالناس في بيوتهم يتهيأون لصلاة المغرب وتناول إفطارهم الذي يكون عادة دسماً يحوي من نعم الله الكثير، ومن لا يتسني له الإفطار في منزله وسط أهله لظروف عمل أو سفر، يحاول المحيطون به مساعدته وإكرامه، وبعد وهلة يعود الزحام وربما أكثر، فتمتلئ المتاجر والمقاهي، ويمرح الأطفال خارج البيوت حتي وقت متأخر من الليل لاطمئنان الأهالي ببركة رمضان وونسه، ومع لحظات الفجر الندية يسعي المصلون للمساجد بين الصحو واليقظة، يرجون رحمة ربهم لاجئين لحماه، ويملأون بيوته التي تبقي رحبة رغم امتلاء الناس بها، تختلط الأنفاس بالدعوات بالهمهمات، بصوت قراء القرآن كلاً منهم علي نغمة وآية مختلفة، كأن الشهوات خمدت وصفت الصدور والقلوب.

ويمتاز رمضان بموسم فني زاخر وفاخر، وتظل الأعمال القديمة في الإذاعة والتلفزيون لها رونقها ومتعتها التي لا تضاهي، رغم التطور التكنولوجي الفائق في صناعة الصوت والصورة، مازالت الأذن والعين تحن للأصوات المعبرة و الوجوه الأليفة القريبة من القلب لفنانين مصر الحقيقيين، الأذن ترقص طرباً حين تسمع ملكة الميكروفون زوزو نبيل وهي تهمس" بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد...." هنا نعيش بالوجدان في عالم من الخيال الجميل المستوحي من قصص ألف ليلة وليلة، كتبه للإذاعة طاهر أبوفاشا وأخرجه محمد محمود شعبان عام ١٩٥٥،مع أن ألف ليلة وليلة قدمت للدراما التليفزيونية مراراً إلا أن الأصل الإذاعي يمتاز ببصمة سحرية علي الوجدان لا تمحي، ويحتل مكان الصداراة في الأعمال المقتبسة عن ألف ليلة وليلة، فنحن نركب علي بصوت فناني ذلك الزمن علي بساط علاء الدين، ونطير بين الممالك والقصور نشارك أبطال القصص مغامراتهم، ولما ينطلق سيد مكاوي في "المسحراتي" يلهج بكلمات فؤاد حداد المقطرة بحب مصر والإنسانية والحياة، فالسحور قد حان وضوء الفجر يبحث عن طريقه، ومع الإقبال علي طعام السحور تتشبع قلوبنا بالأشعار والغناء مع اثنين من أجمل أبناء مصر ارتبطا بالشهر الكريم، يدعوان كل ليلة ليقظة الضمير والهمة كما يدعو مسحراتي الشارع ليقظة العيون" وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال، حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال، وكل شبر حتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال"، وسيد آخر هو سيد الملاح مع المبدعة سهير البابلي  كونا ثنائياُ إذاعياً في منتصف السبعينيات ارتبط برمضان  عن طريق مسلسل"سيد مع حرمه في رمضان" يقدمانه بأسمائهما الحقيقية، ويغنيان في بدايته أغنية في منتهي الظرف، ومن مشكلات سيد وحرمه لمشكلات أخري يواجهها" موهوب وسلامة" كما قدمهما فؤاد المهندس وعبد المنعم إبراهيم، ومع كل أمسية نستمع لرجاء موهوب بمنحه فرصة أخري ليبين قدراته التي يؤمن بها وحده، وهو يردد" ده أنا موهوب والله العظيم موهوب" فننتظر للغد لسماع موقف مضحك جديد، ومع صوت قراء القرآن الكريم نحلق في سماوات الله العلي القدير ونسمع كلماته بحناجر ازدانت بآيات كتاب الله، ونسمع بخشوع وطرب عمالقة مدرسة التلاوة المصرية وبخاصة الحصري والمنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفي إسماعيل، وكيف ينقلون معاني الكلمات بأدائهم الصوتي وإحساسهم العميق بالقرآن الكريم، ومع الابتهالات نخشع وندعو الله بقلوب رقت من فرط حلاوة الأصوات وصدقها، مستقبلين أيام الرحمات بابتهال النقشبندي"رمضان أهلاً مرحباً رمضان، الذكر فيك يطيب والقرآن" .... إن أثير الإذاعة سري في أيام وليالي رمضان، لينشر فيها ذكريات عصية علي السقوط في بحر النسيان.

 ولم يختلف الأمر بالنسبة للتلفزيون بفوازير رمضان التي قدمها صلاح جاهين وفهمي عبد الحميد، فملآ الدنيا وشغلا الناس، وعلي الشاشة تألقت نيللي وشريهان بتلك النوعية من الأعمال، بينما اكتسح المواسم الرمضانية" ليالي الحلمية" بأجزائه الخمس  من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إسماعيل عبد الحافظ ، فتابعهما الجمهور بشغف وتعلق وهما يرويان مع ما يقرب من ٣٠٠فنان حكاية مصر الحديثة، مجسدة في الصراع بين الباشا سليم البدري والعمدة سليمان غانم، علي مدار عشرات الحلقات دمجت المتعة بالتفكير، وبأسلوب طريف وراقي حاور فنان الكاريكاتير رمسيس زخاري نجوم مصر في الثمانينيات والتسعينيات خلال برنامج"يا تليفزيون يا" فاقتربنا من مبدعي مصر بشياكة وخفة علي القلب، وحين نتذكر هذا البرنامج وأمثاله نرثي لحالة الزعيق والكلام بـ"العين والحاجب" في البرامج الثرثارة المتسابقة نحو افتعال الجدال التافه، وحين يتربع الشعراوي علي كرسيه نجلس أمام لسان لبق يفسر الآيات القرآنية بأسلوب مبسط جعلته قريباً من رجل الشارع.

رمضان في مصر له خصوصية لا تجدها في أي مدينة في العالم، فذلك الشهر طوفان من المشاعر يتم التعبير عنها بطرق شتي، سواء في الروحانيات أو فرحة الاستقبال أو تزجية أوقات الصيام بمتابعة الأعمال الفنية، ولكل طريقة صوتها وصورتها، فيبدو رمضان كعالم خاص وجميل، ولكن ياللخسارة فهو كلل شئ بهيج يتلاشي سريعاً ويذوب في تتابع الليل والنهار، ولا يبقي منه سوي الذكري تؤنسنا حتي يعود من جديد.... وهكذا تمضي الأعوام. 


الخميس، 27 فبراير 2025

المنفلوطي... الرجل والأثر

 

 

المنفلوطي... الرجل والأثر

 

في عام ١٨٧٦استقبلت بلدة منفلوط الشهيرة بزراعة الرمان،الواقعة علي الشاطئ الغربي لنهر النيل بمحافظة أسيوط،ابنها الأشهر الذي سيرتبط اسمه بها مصطفي لطفي المنفلوطي،وسيقام له عند مدخلها تمثالاً يقف ليذكر الداخل والخارج أنه هنا ولد وعاش صاحب النظرات والعبرات،فخر بلدته وناسه،عائلته تنتسب للسبط الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد رسول الله،ويبدو أن الأصل رسم مستقبل العائلة فعمل أكثر أفرادها كنقباء للأشراف وقضاة شرعيين،والده محمد لطفي قاضي منفلوط الشرعي،أما والدته اسمها هانم حسين تركية من أسرة الجوربجي،طلقها أبوه وتزوجت من رجل آخر.

كعادة أهل مصر في تلك الفترة دخل الصبي مصطفي الكتاب،ليبدأ منه أولي خطوات حياته العلمية،وتخرج منه حافظاً لكتاب الله الكريم،ثم التحق بعد ذلك بالأزهر الشريف ومكث فيه عشر سنوات،ولم يقف اهتمامه العلمي علي مايتلقاه من دروس في الأزهر،بل كان شغفه بالمطالعة والقراءة أوسع من المناهج وأقوال المشايخ،وهناك تتلمذ علي يد الشيخ محمد عبده منذ عام ١٨٩٥وأصبح من المقربين له،لم يستكمل المنفلوطي دراسته الأزهرية ولم يحصل علي شهادة العالمية،بخلاف استاذه الذي تحدي جمود الدراسة الأزهرية ليحصل علي شهادته،بينما المنفلوطي انغمس في القراءة الحرة في التراث العربي القديم والترجمات من الأدب العالمي  والاطلاع علي الكتابات الصادرة من أدباء الشام في المجهر،والتي مثلت روحاً جديدة علي الأدب العربي.

اتسم المنفلوطي بحساسية شديدة لكل موقف يمر به،أو صفحة من كتاب يقرؤه،ورغم تدفق قلمه السيال،لم يكن طلقاً في الكلام،لسانه ثقيل في الحروف حين يتحدث،كأن الطبيعة سلبت من لسانه البيان وأودعته في سن قلمه،وبفعل الموجات المتحررة القادمة من الغرب وتأثره بالثقافة الأوروبية،علم بناته في المدارس الأجنبية،وفي سنواته الأخيرة حاول إتقان الفرنسية فلم يتمكن من ذلك،ورفض أن يستبدل زيه العربي بالزي الإفرنجي،وإن كان تعلق بالملابس الداخلية الأوروبية.

عام ١٨٩٧تعرض للمحاكمة بسبب قصيدة هجا فيها الخديوي عباس حلمي لدي عودته من تركيا،نشرها في مجلة الصاعقة ثارت لها غضبة القصر الحاكم،واتهمه بالعيب في الذات الملكية،وكاد يتعرض لخطر السجن،لولا توسط أصدقاؤه وعلي رأسهم محمد عبده،يقول في مقدمتها:

قدوم ولكن لا أقول سعيد     وملك وإن طال المدي سيبيد

رحلت ووجه الناس بالبشر باسم     وعدت وحزن في القلوب شديد

حين توفي الإمام محمد عبده١٩٠٥عاد لبلدته يكسوه الحزن،ويفضي بمكنون قلبه علي صفحات الجرائد، كجريدة الصاعقة والمؤيد،ومن الثانية سينطلق المنفلوطي بالنظرات والعبرات،ليكون أشهر كاتب مقال في زمنه،مما يؤهله ليعينه سعد زغلول وهو وزير للمعارف ١٩٠٩ في وظيفة المحرر العربي للوزارة،ويظل يرعاه حتي وفاته ١٩٢٤بسبب تسمم الدم"البولينا"،ودفن وشيع يوم ١٢يوليو دون أن يشعر به أحد إلا قلة كانت حوله،بعدما شغل أذهان المتعلمين والعامة بكلماته وكتاباته،لأن ذلك اليوم كانت مصر كلها في شغل عنه،بعد محاولة الاعتداء علي سعد زغلول في محطة القاهرة،فأصيب برصاصة في ذراعه الأيمن،وأخري أعلي الثدي الأيمن،حين كان في طريقه ليهنئ الملك فؤاد بقدوم عيد الأضحي،فهاجت البلاد كلها خوفاً علي زعيمها الذي أشعل ثورتها الكبري قبل خمس سنوات،وفي خضم ذلك ذلك الاضطراب العاصف فاضت روح مصطفي لطفي المنفلوطي في عيد الأضحي،متألماً من المرض كما عاش يتألم لأوجاع وأحزان نفسه،ويتوجع لمصائب الناس من حوله يلقي عليهم نظراته ويسكب لأجلهم عبراته،وكما عاش متأوهاً مع أبطال قصصه ورواياته،مات وهو يصيح بلهجة الصعيد"آه... آه... يابوي!".

ونعاه أمير الشعراء أحمد شوقي،منوهاً بيوم وفاته الذي صادف الحدث الجلل،فصرف عنه الأنظار وهو يلفظ آخر أنفاسه ويواري التراب،وقد عاش في بؤرة الاهتمام،ومحطاً لأنظار كل ناطقي العربية:

اخترت يوم الهول يوم وداع    ونعاك في عصف الرياح الناعي

هتف النعاة ضحي فأوصد دونهم     جرح الرئيس منافذ الأسماع

من مات في فزع القيامة لم يجد     قدماً تشيع أو حفاوة ساع

لا يمكن لكاتب أو فنان أن يبزغ من فراغ،أو يظهر من تربة فارغة،بل لابد من عملية تجهيز طويلة وتدريب ذهني حقيقي،تتألف فيها القراءات والتجارب حتي تضع البذرة الأولي التي ستثمر في أوانها حدائق فكرية وقصور فنية بهيجة يترنم بخلودها الزمن،والمنفلوطي كاتب تراثي من الطراز الأول،تشرب التراث العربي شعره ونثره،وهضمه وصاغ من ذلك تياراً تجديداً رومانتيكياً في الأدب،فما فعله أستاذه محمد عبده من تجديد للفكر الديني،كرره المنفلوطي في عالم الأدب،وكيف للمنفلوطي أن يخفق في التجديد كمعلمه وقد قيل أنه كان يلازمه ملازمة الولد للأب،فتحرر من"قيود التمثل والاحتذاء"علي حد قوله في مقدمة الجزء الأول من كتاب النظرات حيث جمع بين دفتيه مقالاته في المؤيد،ولم يكن ذلك يجدي شيئاً لولا أن المنفلوطي صاحب نفس فنية حساسة وعقل واع ومدرك يحسن التدبر والتفكير،تشبع الرجل من أدب الجاحظ وابن العميد وابن المقفع وابن عبد ربه والأصفهاني والجرجاني،ودواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام والمعري،وتنسم ريح عصره بكتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة،فكتب بالعربية أعمالاً مزج فيها اللغة العربية الصرفة بديعة النغم والمعني بالروح الأوروبية،كما قام بتعريب نماذج من الأدب الفرنسي بصورة بليغة محملة بالمشاعر والأفكار أكسبتها شهرة ضخمة ربما فاقت شهرتها في بلاد السين نفسها.

انتهج المنفلوطي في أعماله المنهج الرومانسي وقد جاءت راياته تخفق من أوروبا في القرن التاسع عشر،بعد زوال سلطان العقل وانطلاق الوجدان والقلب،وهو ما عبر عنه الشاعر ألفريد دي موسيه"أول مسألة هي ألا تلقي بالاً إلي العقل... بل اقرع باب القلب ففيه وحده العبقرية وفيه الرحمة والعذاب والحب". يعتبر جان جاك روسو هو الرومانسي النموذجي الأول الذي شق طريقاً للرومانسية،وقد عرفت مدام دي ستال الرومانسية في فجر مولدها بكونها تعني"الحس المرهف،الحزن المبهم،التطلع إلي الله وحب الطبيعة"-إنه أدب المنفلوطي دون زيادة-من أبرز روادها فيكتور هوجو الذي سيطر علي أدب القرن التاسع عشر حتي سماه بعض النقاد"عصر فيكتور هوجو". وكما نري في تلك الإشارة السريعة أن المذهب الرومانسي نبع من الأراضي الفرنسية لذلك يقال"الرومانسية هي الثورة الفرنسية ممثلة في الأدب".لاءمت تلك المدرسة وجدان المنفلوطي،وأظن أنه همس لنفسه في ليلة هادئة بكلمات فيكتور هوجو في ديوان التأملات وهو يستدعي شجونه التي لامست وجدان الجميع وتولهوا بها كأنها مرآة لوجدانهم هم"عندما أكلمك عن نفسي فإنما أكلمك عن نفسك،آه كم أنت مجنون لو ظننت إنني لست أنت". لقد مهد التراث العربي كما عايشه المنفلوطي لدخوله باب المدرسة الرومانسية واعتماده رسولاً لها بين أهل عصره الذين عشقوا كتاباته من أصغر القراء شأناً حتي قمم الأدب المصري كنجيب محفوظ ويحيي حقي،تلك المدرسة التي تعني بالقلب والقلب وحده،وتدور أعمالها في جو من المشاعر والأحاسيس،في مدتئم القلوب وشوارع الخطرات الشاعرية،فعاش يبكي للمنكوبين البائسين،ويرقق القلوب علي الضعفاء العاجزين،وعن منهجه الأدبي يقول"ولقد قرأت ماشئت من منثور العرب ومنظومها،قراءة المتثبت المستبصر،فرأيت أن الأحاديث ثلاثة:حديث اللسان،وحديث العقل وحديث القلب"،ويؤكد أنه لم يحفل سوي بحديث القلب أي إنه رومانسي بالسليقة و إن لم تكن الكلمة طرقت سمعه بعد،نبت في تربة عربية مترعة بالرومانسية يفوح من بلاغتها رائحة القلوب،فقرر استكمال مسيرة أجداده ويؤسس للرومانسية مدرستها في الأدب العربي المعاصر،وأن يكون هو ناظرها الأول وأن يعرف في مقالاته التي كان يتخاطفها القراء المحبون له،وبعضهم يحفظها عن ظهر قلب من فرط هيامه بها،فيثني علي كتاب بلاغة الغرب لكامل حجاج اذي جمع فيه مختارات من الأدب الأوروبي،ويترجم قصيدة الدعاء لفيكتور هوجو مبدع رواية البؤساء درس الإنسانية الخالد،ويخط رسالة لتولستوي الذي هجر أملاكه الشاسعة ومات في محطة قطار بعدما حاول منح ثروته للفلاحين الروس الفقراء،وينعي فولتير المدافع عن الحرية وكرامة الإنسان،ويحلل معني البلاغة متخذاً خطبة أنطونيو بعد مقتل القيصر مثالاً لذلك كما وردت في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير.

بمزيج من الترجمة والتأليف يكتب قصص العبرات التراجيدية،كإرهاص لما سيترجم بعد ذلك من روايات بدأ في تعريبها ١٩١٧بعمله الأشهر ماجدولين لألفونس كار،وقد عربها عن ترجمة صديق له يدعي محمد كاما فؤاد،كعادة المنفلوطي في إعادة صياغة الأعمال الأصلية عن طريق شخص آخر يعرف الفرنسية،فيضيف ويحذف حسب هواه ويعيد ترتيب الأحداث كما يراها هو لما كما دونت ويستفيض في الدروس والمواعظ... وبعد أن يتساءل الناقد عبد الفتاح كيليطو في كتاب"لن تتكلم لغتي"سؤالاً استنكارياً"من هو القارئ العربي الذي لم يتأثر في فترة من حياته بالمنفلوطي،ولم يفتتن بأدبه،ولم يذرف الدموع الغزيرة عند قراءته؟"يلاحظ أن المنفلوطي تشبع بالمؤلفين الفرنسيين الذين ترجم لهم،لدرجة أنهم صاروا جزء من كيانه وروحه لدرجة عدم كتابة اسمائهم علي أغلفة الروايات،فتحت عباءته الأزهرية اللباس الداخلي الأوروبي الذي زلع به،فالمنفلوطي بداخل أعماقه روح أوروبية سترها بالملابس الأزهرية،كما ستر أسماء المؤلفين تحت اسمه العربي الفصيح.

يتذكر الناقد عباس حضر في إحدي مقالاته جزء من حالة الهيام بالمنفلوطي،انهمكت في قراءة المنفلوطي بكل مشاعري وفتنت بعباراته وجمله الموسيقية،حتي إنني كنت أكتب ما يطربني منها في مذكرة جيب أضعها في جيبي كأنها محفظة نقود أنفق منها"لقد أثر المنفلوطي بكتاباته المقالية في النظرات والقصصية في العبرات والأعمال المعربة بروحه ووجدانه الشخصي،في رواد أدبنا الحديث الذين نفتخر بمنجزهم في معترك الحياة الأدبية،نجيب محفوظ أول محطاته الحقيقية بدنيا الأدب في صباه كانت بين يدي المنفلوطي"بدأت أقرأ المنفلوطي حتي تشبعت منه تماماً،وعندما فرغت وبدأت اسأل عنه وجدته قد مات منذ ٢٧عاماً فبدأت أبكيه"ماجدولين هو الكتاب الوحيد الذي أعاد قراءته لأكثر من عشرين مرة!... في ماجدولين شحنة عاطفية لا تفني،مصدرها حرارة عواطف المنفلوطي نفسه وشاعرية بطلها استيفن وروحه العامرة بالحب ومالاقاه من خطوب وتضحيات جسيمة في سبيل حبيبته،ورقة وجمال ماجدولين ومأساتها التي أدت لانتحارها بعد الزواج من ادوار صديق استيفن الثري،مع الجو الأوروبي الذي يغلف صفحاتها،والعبارات النثرية الممتعة،وظل محفوظ يذكر المنفلوطي في أعماله،في رواية بداية ونهاية نسمع حسن يقول لخطيبته"من يقول أن القبلة استهتار؟ألم تقرأي ما قاله المنفلوطي في القبلة وهو الشيخ المعمم؟"أما كمال عبد الجواد المعادل الروائي لشخصية محفوظ فيناجي نفسه في الثلاثية"موت المنفلوطي وضياع السودان ووفاة سيد درويش أحداث كللت زمننا بالسواد"،العميد طه حسين كان من المتولهين بالمنفلوطي قبل محفوظ بزمن،يلتهم مقالاته بأذنه،وتأثر بها من حيث إيقاع النثر وسبك المعاني،ويتجلي ذلك في مقالاته القصصية مثل جنة الشوك والمعذبون في الأرض،وكذلك إبراهيم المازني في صندوق الدنيا وقبض الريح،ولم يفلت من تأثيره كتاب الرومانسية كمحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي،بل ورواد الاتجاه الواقعي كعبد الرحمن الشرقاوي،ويعبر يحيي حقي بكلماته التي تعرف علي الدوام هدفها،بتشكيل فكرة كاملة واضحة بعبارات رشيقة في ذهن القارئ في كتاب"خليها علي الله"عن مكانة المنفلوطي بين أبناء جيله وينسحب ذلك علي الأجيال التالية له"كان المنفلوطي أعز الناس لدي الجيل الذي أنا منه،مصطفي لطفي المنفلوطي.أسال من صخرة الفصحي عيناً سلسبيلاً كم نهلنا منها وارتوينا،إن سحره لا يقاوم وفضله علينا عظيم،ولو أنه رحمه الله أكبر مسئول عن دموع مآقينا وزفرات صدورنا،وخفقات قلوبنا ونحن نقرأ له" العبرات"و"ماجدولين-أو تحت ظلال الزيزفون"".

لقد شق المنفلوطي بقلمه مجري جديداً للأدب العربي المعاصر،وحرك المشاعر فظهر من يكتبون بعد أن أحسوا بلذة الأدب تأثراً به.... وما يزال تأثيره مستمراً حتي اليوم رغم ما يتعرض له علي الدوام من نقد أو بالأحري"نقض"وتجريح،منذ هجوم المازني عليه في العاصفة التي أقامها مع العقاد في كتاب الديوان،ليشتهرا علي حساب كبار من حملوا القلم مع بداية النهضة المصرية،حتي زمن الإنترنت والكلام حق فيه لمن يعلم ومن لايعلم،من يقرأ بتمحيص ومن سمع ويردد دون فهم،يكفي أن كل من يدرك قيمة المنفلوطي ويحمل روحاً شاعرية مهمومة بآلام البشر وأوجاعهم،سيظل يأتنس في لياليه مع النظرات والعبرات،يري كيف تلضم كل عبارة رهيفة حساسة مع أختها لتنتج صفحات تقرأ بالقلب قبل العين والعقل،ويحيا ساعات غير محسوبة من العمر،يعيش فيها مع ماجدولين واستيفن وقد سمت مشاعره،وتعلم أن يفتح قلبه للحب تاركاً الحقد وسخائمه كي لا يتلطخ بالوحل،معرضاً عن الصغائر متعالياً عن الغريزة في سبيل الروح،ويتحمس للوطن هاتفاُ لحياته من أعماقه مع رواية في سبيل التاج،المهداة منه لزعيم الأمة سعد زغلول،ويشهد فيها كيف تغلبت عاطفة الوطنية قسطنطين ابن القائد برانكومير علي كل عاطفة أخري حتي حبه لأبيه الذي يكتشف خيانته لبلاد البلقان،فيفضل حرية شعبه واستقرار بلده علي حياته وحياة أبيه مضحياً في سبيل الوطن بكل ما يملك دون تردد أو ندم...أثر أعمال المنفلوطي في الزمن الحالي ليست في الأسلوب والألفاظ،التي طرب لها أجدادنا في عصره وحفظوها إعجاباً بمقدرته اللغوية التي بجلوها فيه،بل في الروح العذبة والصدق الذي يكسو كلماته،ولأنها خرجت من القلب فتسري للقلب،سواء كان ينتظرها تصدر في جريدة تأتي من مكان بعيد،أو يقرأها علي شاشة هاتف أو كمبيوتر بين أصابعه يفتحها في أي وقت كحالنا اليوم... إنها مؤثرة حقاً لا أحد ينكر وحتي أكثر كارهيها،لا يعترض علي كونها تلامس الروح الساذجة الطيبة الكامنة داخل كل فرد فينا،وتتواري مع كل تجربة مريرة حتي تكاد تتلاشي من الكمد والضربات القاسية!وبمثل تلك الأعمال يمكننا الحفاظ علي جانبنا الخير،في زحام ملابسات حياتية وتعقيدات اجتماعية تهدد باغتياله في كل ساعة،مع المنفلوطي نحتال لأخذ هدنة من ضجيج الترندات والكلام الفارغ والأحداث المخزية،والكتب الرديئة وأدعياء الكتابة والثقافة،ونخلو نتصفح خطرات قلب ذاك الرجل البليغ ومعانيه الحلوة،وننطلق مع شخصياته ذوات المبادئ الثابتة كي لا تذبل فينا الفضائل.

ومع كل معركة أدبية تافهة،أو ضجة من شبه أديب أو مدع ثقافة متضخم الذات،أتذكر ابن منفلوط الذي ترك أثره ورحل،والرجال الحقيقيون هم من تتكلم عنهم أعمالهم لا ثرثراتهم،أتذكره وابتسم قائلاً"سلام عليك يا منفلوطي،يا من جعلت من الأدب ملجأ أهرع إليه في وحدتي فأشارك بوجداني شقاء إخوتي في البشرية،فيرق قلبي ويهتف بحب الإنسانية".


 

 

الجمعة، 31 يناير 2025

الخطط 36

 


اشتهرت الصين بالحكمة التي غطت كل جوانب معيشتها، فكما نتعلم فن الحياة من لاوتزو وفن السياسة والمعاملات من كونفوشيوس، من كتاب الخطط الست والثلاثين نستقي فن إدارة المعارك، ليست الحربية فحسب بل المعارك الاقتصادية والسياسية والإعلامية، لأن ذلك الكتاب كاشف للطبيعة البشرية، ونوازع وأهواء النفس الإنسانية رغم صفحاته المحدودة، ويعرض بالتلميح والإشارة لمواطن ضعفها وكيفية استغلالها لاقتحام أسوار الأعداء مهما تسلحت بالدفاعات لكتابة النصر النهائي أو الانسحاب دون خسائر، لقد ظهرت تلك الخطط خلال عصر الممالك المتحاربة، قبل ظهور قادة روما العسكريين، لتلخص خبرات طويلة في الصراعات بين جيش وجيش وعقل وعقل، إنها الخطط التي طبقها أفذاذ الحياة العسكرية كالإسكندر ونابليون، فلم تكن حروبهم مقتصرة علي السيف فقط، بل جاء السيف في مرحلة متأخرة بعد استخدام الحيل والمهارات والتكتيكات الحربية للتغلب علي الخصم وكشف معسكره وطريقة تفكير قواده... إنك بين صفحات هذا الكتاب ستتغلغل في رقعة شطرنج كبري، وتكتشف مفاتيح الفوز في معارك كثيرة إذا استوعبت كيف تلعب دورك جيداً، وماذا تحرك من قطعك وكيف تتفادي أفخاخ خصمك للإيقاع بك. 


ديوان المتنبي

 


صدق ابن الرشيق القيرواني عندما قال"ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس" وديوانه الذي حققه عبد الوهاب عزام-الذي قضي شطراً كبيراً من عمره في صحبة المتنبي- بتدقيق شديد مع الإشارة لما نسب للمتنبي أو ما غيره الشاعر نفسه فيما بعد، واختلاف نسخ المخطوطات فيما بينها، يملأ وجدان القارئ حتي اليوم وسيظل قابعاً في الثقافة العربية مادامت قائمة ثروة للاقتباس والقياس والعظة، نري فيه تطور الشاعر منذ صباه لأنه قد رتب القصائد تاريخياً من أول بيت قاله حتي ختام آخر قصيدة له، نسير مع قصائده لنهاية حياته، ويالها من حياة فريدة وشخصية نادرة، اصطدمت بالدنيا والناس ومع كل ارتطام نسمع دويه شعراً يتفجر من قريحته الملهمة من موهبة سماوية، ستقرأ هنا أحد روائع وآيات الأدب العربي القديم، تتعلم اللغة والحكمة وفن البياز ويدق قلبك في مواطن كثيرة وستتأمل وتفكر في الدنيا والناس في مواطن أكثر، فمن بين أبيات المديح والرثاء والهجاء والغزل، يعصر المتنبي من حشاشة نفسه ويصفي قطرات من روحه مثقلة بالحكم مواعظ التجارب مع الناس ودنياهم، ولا تندهش لو وجدت نفسك وعواطفك تتجلي في مرآة قصائده، فقد صدق أيضاً القاضي الفاضل أيضاً حين قال"إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس". 


التعريف بشكسبير

 


حينما يكتب العقاد في السير والتراجم، تفيض الأفكار والمعلومات من قلمه السيال، جامعاً كل الخيوط الذاتية والموضوعية لرسم صورة صادقة عن المترجم له، وهكذا فعل وهو يعرف بشكسبير فيدون للقارئ بطاقة شخصية مطولة عنه، يسطر فيها روح عصر شكسبير وخصوصية انجلترا في ذلك الوقت لعزلتها بين أمواج البحر، ويبين دور الأسرة والفارق بين تطلعاتها المحدودة وطموح أعظم شخص ولد فيها، بل أحد أعظم الأسماء في التاريخ، ويبرئه من تهمة الانتحال التي اتهم بها زوراً أو جهلاً، ويصور طبيعة شكسبير الكاتب المسرحي وشكسبير الشاعر، مسجلاً آراء الأدباء فيه كفولتير وتولستوي،وكيف يتم تطبيق النظريات النفسية الحديثة علي أبطاله، ولماذا تحول لأيقونة عالمية في مختلف الدول، حتي ولو كانت تعادي إنجلترا إلا أن أعمال شكسبير برونقها اللامع طغت علي أي خلاف سياسي أو عسكري، وكيف تلقفته الثقافة الشرقية، الكتاب يجيب علي العديد من الأسئلة حول واحد من أعظم أدباء بني البشر، الرجل الذي أدخل في اللغة الإنجليزية كلمات صكها وختم عليها لم تكن تعرفها من قبل، والعبقري الذي صور شخصيات حية أكثر من الأحياء أنفسهم كهاملت وعطيل والملك لير... إنه خير استفتاح لمن يقبل علي خشبة المسرح الشكسبيري لأول مرة ولا غني عنه للمهتمين بأعمال شكسبير وحياته، لأنه يلقي الضوء علي الكثير من الألغاز والمشكلات التي أحاطت بشخصيته، فلا تضيع الوقت واجلس مع العقاد ليقدم لك شكسبير الرجل والفنان. 


كتاب أبو نواس قصة حياته

 


رحلة في الزمان والمكان يصطحبنا فيها عبد الرحمن صدقي باقتدار، لنشاهد حياة أبو نواس، وترحاله من البصرة إلي الكوفة ثم لبغداد ومصر، ونري أثر من حوله فيه بدء من أمه التي تزوجت بعد أبيه وساءت سيرتها فقطع علاقته بها حتي مات، ووالبة بن الحباب الخليع أستاذه في التهتك والمجون، والبوابة التي دخل منها أبو نواس إلي عالم الشهوات بلا حد ثم حبيبته جنان وأثر فراقها عليه، واتصاله بهارون الرشيد وحبسه له ثم منادمة ابنه الأمين ثم وفاته في زمن مضطرب لم ينشغل بشئ فيه عن ملذاته وكأسه، حياة كاملة يصفها لنا المؤلف فيها المضحك وفيها المبكي، نستشف من سيرته صورة للحياة العربية الإسلامية في ختام العصر الأموي وبداية العصر العباسي، نمشي في ركاب أيامه ونسمع خطرات روح تمرغت في المجون والفسق ثم اعتصمت بالتقوي والزهد، ونتساءل ونحن نقرأ سيرة أبي نواس عن لغز النفس الإنسانية وما تحويه من عقد وخفايا لا يعلمها إلا خالقها... في ذلك الكتاب تاريخ وشعر ودراسة نفسية لشاعر بليغ قضي حياته بين الكأس والنغم وقضي نحبه طامعاً في عفو الكريم ورحمة خالقه رغم كل شئ. 


بيت بجوار المقابر

 بيت بجوار المقابر



سكن زحام النهار في رأسه ولم يعد هناك سوي صدي يدوي مثل دق ناقوس بعيد، يردد "علي أن أجده"... لم يمر من هذا المزلقان منذ فترة، لقد اعتاد في الآونة الأخيرة صعود الكوبري والتفرج علي شرفات المنازل الموازية له والمارة في الأسفل، وربما التقي بالقطار وهو يمر تحته كوحش حديدي يجري مصدراً أصواتاً محذرة وكأنه يقول"من يقف في طريقي فسآكله"، فيبتعد الجميع عنه في وجل وتقبض الأمهات بقوة علي أيدي صغارهن، وما أكثر تعساء الحظ الذين أكلهم الوحش في ذلك المكان.

مضي عامر يسير حتي اقترب من المزلقان، وحين لاحت منه التفاتة جانبية لمكان الكشك، توقف بغتة، إذ لم يره! لم يعد موجوداً اقتلع من الأرض وبقي مكانه خالياً، تجمد الزمن للحظات ورجع به عشر سنوات، حين كان شابا" في مقتبل الحياة يري الدنيا صغيرة في عينيه، وسهلة في وجدانه لا تقتات روحه علي شئ إلا الأمل، يتشرب الأدب والفن من كل مصدر يجده، ويردد لأصدقائه-حين كان يمتلك أصدقاء- غير عابئ بسخريتهم وضحكاتهم المستهزئة" أنا إسفنجة أتشرب كل الأشياء وأخلقها من جديد بصورة فنية"، وبقي ذلك الكشك تحت الكوبري من المصادر الأساسية للمعرفة، من خلاله كون قسماً كبيراً من مكتبته واشتري العديد من الصحف والمجلات، قبل أن يتوقف تماماً عن التعامل معه منذ مايقرب من خمس سنوات، حين فرمه وحش آخر اسمه واقع الحياة وتشظت روحه تحت شفرات متطلبات الدنيا، فتخلي عن أحلامه الأدبية وأهمل القراءة وتوقف عن الكتابة، وبدت أمانيه القديمة وإيمانه بها نكتة تثير الضحك حتي البكاء، في العشر سنوات انقلب فيهم العالم كله رأساً علي عقب، وهو أيضاً تبدل تماماً، كغدير ماء امتلأ يوماً بماء المطر، ولمعت علي صفحته أشعة الشمس الذهبية في منظر يبهج القلوب، ثم أصابه الجفاف فأصبح خراباً ومصب للقاذورات ومأوي ترتع فيه الحشرات والزواحف، وحده الكشك ظل قائماً كذكري تؤنسه، وتؤكد له أنه عاش تلك الحياة حقاً ولم تكن وهماً ولا خيالاً، صحيح أنه يتقادم ويتآكل حتي أغلق تماماً قبل عامين إلا أنه ظل موجوداً علامة علي سنوات خصبة ممتلئة بالأمل والطهارة، في زمن لم يعرف فيه كمائن الحياة الغادرة، أو يتعثر في الاحقاد والصراعات فتدمي عينيه من أشواكها ويفقد البوصلة وتتوه منه الطمأنينة.

صمم علي إيجاد عم كريم صاحب الكشك فتوجه للمقهي المجاور المزدحم بالجالسين، وسأل الصبي الذي هرول أمامه مسرعاً وهو يسخن حجر الشيشة لأحد الزبائن، وسأله علي أمل أن يكون الرجل مايزال علي قيد الحياة:

-إلي أين ذهب عم كريم؟

بدون أن ينظر له أجابه:

-عم كريم صاحب كشك الكتب والجرائد المقتلع من مكانه.

ألقي عليه الصبي نظرة سريعة:

-ما أعرفه عنه أنه لم يعد يغادر منزله.

-وأين يسكن؟

اتجه عامر إلي العنوان كما وصفه له صبي المقهي، فشاهد منزلاً متهالكاً امتلأت واجهته بالشقوق بجوار المقابر، وعلي طرفي بابه الحديدي الصدئ ربطت بنتاً صغيرة حبلاً ووضعت عليه مخدة حال لونها للسواد، صانعة بذلك أرجوحة تلهو بها، ولما شعرت به ورفعت وجهه له، وجدها آية للجمال والحسن، صبت في قالب ملائكي التكوين، ملاك صغير أبيض، فحنّ قلبه لمرآها، وسألها وقد ابتسم بصدق لأول مرة منذ عهد طويل جداً:

-هل عم كريم موجود؟

ابتسمت البنت، فأشرق وجهها وازدادت جمالاً وروعة:

-هل تريد جدي؟

أومأ برأسه، فجرت علي السلم يتبعها حتي وقف علي البسطة، كي لا يجرح من يفتح الباب لو كانت امرأة ودقت البنت الجرس، فتحت الباب امرأة عجوز علي وجهها نظارة سميكة تكاد تحجب عينيها، وسمعها تقول:

-ماذا تريدين يا سناء؟

فأشارت البنت نحوه:

-رجل يريد جدي.

أطلت العجوز من الباب فبادر:

-السلام عليكم يا حاجة، أنا آسف لإزعاجكم، ولكني جئت لزيارة عم كريم.

-أهلاً وسهلاً يا بني... ومن أنت كي أخبره؟

ارتبك عامر، وشك أن الرجل سيذكره:

-قولي له عامر، الشاب الذي كان يجيئك باستمرار ليشتري منك الكتب.

بدا علي العجوز أن كلامه لا يشير لشخصيته، فتجنبت إحراجه بسؤال جديد وهمت بالدخول:

-بعد إذنك سأدخل لأخبره. 

غابت في الداخل لفترة وجيزة، ثم عادت لتأذن له في الدخول، فوجد علي الأريكة عم كريم يبتسم له وقد عرفه، فمد يده وسلم عليه، فوجد الرجل لم يفتح فمه أو يمد يده، اكتفي أن يطأطئ في انهزام، فتدخلت زوجته العجوز بسرعة قائلة بصوت باكٍ:

-أصيب بجلطة أفقدته الحركة والنطق! 

تمتم عامر بألم:

-لا حول ولا قوة إلا بالله. 

وفهم سبب إزالة الكشك، ورنا بعينيه لسناء وهي مستندة علي الباب، فأكملت الزوجة وقد زادت نبرتها الباكية:

-إنها حفيدتنا، توفي أبوها وتزوجت أمها وليس لها أحد سوانا، عجوزان علي شفا الموت. 

تأثر عامر بما سمع، وشعر أن هناك باب جديد يفتح له، إن تلك البنت هي الناقوس الذي ناداه ليجد عم كريم، لطالما تاق لابنة يرعاها تعوض آلامه وانفصال زوجته عنه بسبب عقمه وعدم قدرته علي الإنجاب، ونظر ملياً للشقة، فرآها خالية مسوسة الأثاث تساقط الطلاء عن جدرانها، والمطبخ لا تنبعث منه أي رائحة كأنه لم يوقد فيه النار منذ وقت طويل، وقال لعم كريم:

-إنك رجل صاحب فضل...لطالما عاملتني بحنان، ووافقت علي تقسيط ثمن الكتب والمجلات بسرور، ولا أنس إني رأيت عندك اسمي مطبوعاً في صحيفة لأول مرة عندك، لقد قفزت في الهواء فرحاً وتلقتني بين ذراعيك، وكنت أشد سعادة من مني وفرحاً لفرحتي البريئة. 

فضحك عم كريم وزوجته وسناء لأن عامر مثل ما حكاه بدقة. 

من ذلك اليوم لم تنقطع زياراته المتكررة لذلك المنزل، وفي كل مرة يجلب معه الهدايا والمأكولات ويملأ يد المرأة بالمال، حتي أصبح يوم زيارته تحسب لها الأيام، وتغيرت حياتهم كلهم، رأي فيهم عامر الأسرة والصحب وأغدق حنانه علي سناء كأب رؤوف بل وبدأ يكتب روايته الأولي، ووجدوا فيه الأمل والسند أمام مصاعب الحياة، وفي مدخل البيت تقف أرجوحة حقيقية جميلة مزدانة بالرسوم تلهو بها سناء طوال النهار... يراها كل من يتجه للمقابر مشيعاً أو زائراً.