السبت، 10 مايو 2025

آدم حنين سؤال وجواب

 1-ما هو الحي الذي نشأ فيه آدم حنين؟

حي باب الشعرية. 

2-ما الذي تعلمه آدم حنين من زيارة المتحف المصري؟

تعلم النظر إلي الأشياء، ووجدت عينه طريق الرؤية. 

٣- كم عام عاش آدم حنين في قرية القرنة بالأقصر؟

عامين. 

4- ما الذي ألهم آدم حنين لوحة البشارة؟

منزل ريفي بسيط رآه في قرية القرنة بالأقصر، علي واجهته غزالة معلقة.

٥-ماذا قالته الرسامة غابرييل مونتر، لآدم حنين، أثناء زيارتها للمعرض الذي أقامه في ميونيخ؟

إنه لن يجد في بيئة الغرب مايغني تجربته، وأنه من الأفضل ألا يتأثر بأعمال الأوروبيين.

٦- اذكر واحداً من الأعمال التي أنجزها آدم حنين أثناء تواجده في جزيرة "الفنتين"؟

رجل يشرب من القلة.

٧- ما هي أهم أعمال آدم حنين مع الشاعر صلاح جاهين؟

رسومات لمرافقة "رباعيات صلاح جاهين" في مجلة" صباح الخير".

8-من هو المهندس المعماري الذي صمم منزل آدم حنين بالحرانية؟

رمسيس ويصا واصف.

٩-في أي عام أقام آدم حنين معرضه في بيت السناري؟

عام ١٩٦٦.

١٠- ما هي أسباب سفر آدم حنين إلي باريس؟ 

نكسة ١٩٦٧،حينها كانت الأجواء مشحونة والناس كانت معبأة باليأس والهزيمة، فلم يستطع الاستمرار في هذا المناخ. 

١١- كم عام مكث آدم حنين بفرنسا؟ 

٢٥عاماً. 

١٢-في عام أنشئ سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت؟ 

١٩٩٦.

١٣- متي بدأ ترميم تمثال أبو الهول؟ 

١٩٨٩.

١٤-متي بدأ تأسيس سمبزيوم أسوان الدولي لفن النحت؟ 

١٩٩٦.

١٥-متي بدأ آدم حنين في إنجاز مشروعه الشهير"السفينة"؟ 

٢٠٠٠.

١٦-متي بدأ إطلاق الدورة الأولي من جائزة آدم حنين لفن النحت؟

٢٠١٦

١٧- أي خامة يفضل آدم حنين استخدامها؟ 

الفحم والنسيج

١٨- هل يختار آدم حنين موضوعات أعماله بناء علي تأثير الفن المصري أم أن هذا التأثير يظهر بشكل غير مقصود؟ 

حضور الفن المصري في أعماله يأتي دون قصد، وبغير افتعال، لأن هذا الفن صار جزءً من تركيبته النفسية والشخصية. 

١٩-كيف تؤثر الثقافة والخبرة الحياتية في رؤية الأشكال والتفاعل معها وفقاً لآدم حنين؟ 

يري آدم حنين أن الأشكال ترتبط في أذهاننا بكثير من الانفعالات الني نحس بها وتذكرنا بلحظة الرؤية، فكل إنسان يتذكر شيئاً مختلفاً عن الآخر، وكل شخص لديه تصوراته ورؤيته حسب ثقافته وخبرته. 

٢٠- ما هو العمل الفني الناجح من وجهة نظر آدم حنين؟ 

العمل الذي يشبه لقاء جديداً بالجمال والإدراك الذي يثير الدهشة والرغبة في التأمل العميق. 

٢١- ما هي الخصائص التي تجعل البومة كائناً منفرداً في نظر آدم حنين؟ 

يري آدم حنين البومة كائناً غريباً ومثيراً جداً، فرغم ما تثيره في نفس البعض من شعور بالتشاؤم إلا أنها شديدة التفرد، تظهر ليلاً وتختفي نهاراً ومعبرة عن العزلة بشكل ما. 

٢٢- ما هما القطبان المتناقضان في جوهر الفن المصري؟ 

هما الكتلة والخفة، إن جوهر النحت المصري القديم هو المهابة والرقي وصلابة وخفة التمثال أو المنحوتة، وهاتان الصفتان هما اللتان أعطتا الفن المصري شكله الذي يبدو بسيطاً إنما سحيق وعميق الأغوار. 

٢٣-ماذا كان دور صلاح مرعي في سمبوزيوم أسوان؟ 

كان مسئولاً عن ترتيب المنحوتات الجرانيتية المعاصرة المعروضة بالمتحف المفتوح بأسوان، وحافظ علي الطبيعة الجبلية للأماكن، مفضلاً جمال المناظر الطبيعية. 

٢٤-ما الذي يجعل تجربة آدم مع البردي مثمرة؟ 

ورق البردي مادة مدهشة، مادة تجمع بين الحجر والخشب، فيها نوع من الدفء جعله مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً، كانت علاقته بمادة البردي مثمرة للغاية، لأنها كشفت عنده مخزون ثقافي وروابط ماض مازال يتحرك في داخله. 

٢٥-في أي عام افتتح متحف آدم حنين؟

٢٠١٤ 

٢٦- في أي مجلة كانت تنشر رباعيات جاهين ولوحات حنين؟

مجلة روز اليوسف. 

٢٧- من الذي نظم عرض أعمال آدم حنين بقاعة العرض الدائمة بمكتبة الأسكندرية؟ 

 صلاح مرعي. 

٢٨- ما الذي دفع آدم حنين لإطلاق مسابقة" آدم حنين لمراحل التعليم ما قبل الجامعي"؟ 

إيماناً منه بأهمية دعم وتشجيع النشء علي ممارسة الفن التشكيلي كوسيلة للتعبير عن النفس. 

٢٩- في أي عام أطلقت مؤسسة آدم حنين مسابقة قريتي؟ 

٢٠٢٢


٣٠ – ما الذي يميز فن النحت من وجهة نظر آدم حنين؟ 

يري أن فن النحت أكثر ارتباطاً بالطبيعة، كما أن له علاقة مباشرة مع المتلقي، عكس الرسم أو التصوير، لكنه فن يحتاج إلي الصبر والتأني، فهو يجلس أمام العمل لساعات طويلة

 




أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟

 


أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟ 

كل فيلم لكريستوفر نولان بمثابة بئر عميق للأفكار الفلسفية المثيرة للنقاش، وتحفيز العقل علي التأمل، منذ انطلاقته الأولي بفيلم Follwing  ذو الميزانية المنخفضة للغاية(٦٠٠٠دولار)1998،، حتي فيلم أوبنهايمر ٢٠٢٣ الذي تكلفت صناعته ١٠٠مليون دولار ومثلهم للتسويق والدعاية، إن رحلته السينمائية عبارة عن اسكتشاف للحياة والنفس، البحث عن نغمة الزمن الغامضة، في سيمفونية الكون العظمي.

في عام ٢٠٢٤فاز نولان لأول مرة بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلم أوبنهايمر، الذي توج بست جوائز إضافية من إجمالي ١٣جائزة رشح لها، نال منها جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثل دور رئيسي لكيليان مورفي، عن أدائه لشخصية أوبنهايمر ليصبح أول أيرلندي يفوز بتلك الجائزة، وأفضل ممثل مساعد لروبرت داوني جونيور عن دور لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية الأمريكية بين عامي ١٩٥٣و١٩٥٨، وأيضاً أفضل مونتاج، أفضل تصوير سينمائي وأفضل موسيقي تصويرية.

قبل ذلك بأربع سنوات وتحديداً في شهر ديسمبر من عام ٢٠٢٠أعلنت شركة وارنر برذرز للإنتاج السينمائي، عن خطة لإصدار أفلامها في دور السينما وعلي منصة HBO بشكل متزامن، وكان نولان يتعاون مع تلك الشركة العريقة منذ فيلمه Insomina ٢٠٠٢،فانزعج بشدة من هذا القرار، لأنه من أكبر المدافعين عن السينما بشكلها التقليدي التاريخي، حيث يجلس المشاهد في دور العرض يكتنفه الظلام، وأمامه الشاشة العملاقة ليبدأ سفره الروحي في عالم الفن والأحلام، وأدي ذلك القرار لهجرته لشركة يونيفرسال لإنتاج وتوزيع الفيلم، بشروط خاصة فرضها نولان، فبالإضافة لبند الميزانية الضخم طلب عدم عرض أي فيلم جديد للشركة المنتجة لمدة ثلاث أسابيع قبل وبعد صدور الفيلم،وتم الموافقة علي كافة طلباته مما يعكس مدي أهمية نولان في صناعة السينما الأمريكية، بل أن بعض الممثلين الذين ظهروا في الفيلم خفضوا من أجورهم للعمل في الفيلم كروبرت داوني جونيور ومات ديمون وإيملي بلانت، فحصل كل منهم علي٤ملايين دولار، مقابل أجورهم المعهودة التي تترواح بين ١٠ و٢٠مليون دولار، والأغرب إن عملية اختيارهم كانت سرية للغاية، لدرجة أن منهم من لم يعرف أي دور سيؤديه بعدما وافقوا علي عقد الفيلم، لثقتهم الكاملة بمهارات وكفاءة كريستوفر نولان، الفنان القادر علي الانتصار لماهية السينما الحقيقية، في ظل مخاطر تكنولوجية رهيبة تقدم الزيف بدلاً من الصدق الفني، وآمن بالجمهور العاشق لذلك الفن، فلم يخذله وتوافد من كل أنحاء العالم علي قاعات العرض السينمائي مخصصاً جزء من يومه وروحه ووجدانه ليهبه للشاشة الفضية، لأن السينما كما يفهمها نولان وهو محق مائة بالمائة، تجربة سمعية وبصرية يتشربها وعي المشاهد ولا مكان لهذه التجربة سوي دور العرض وإمكانياتها المجهزة لذلك، وبعد وقت قصير أصبح أوبنهايمر جزء من الثقافة الشعبية في العالم

بدأ نولان كتابة الفيلم في بضعة أشهر، عقب انتهائه من العمل علي فيلمTenet ولم يكن ذلك الوقت القياسي مفاجئاً، فنولان يفكر في عمل فيلم عن أوبنهايمر منذ سنوات طويلة، فعندما كان في الحادية عشرة اندلعت احتجاجات ضد الأسلحة النووية، فعرف منذ طفولته خطورة السلاح النووي، وامتلأ قلبه بالخوف من احتمال نشوب حرب نووية تفني الجميع، وفي شبابه أصدر المغني البريطاني ستينغ أغنية عام ١٩٨٥تنتقد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ظلت كلماتها عالقة في ذهنه خاصة عبارة"كيف أنقذ ابني الصغير من لعبة أوبنهايمر المميتة؟!" ظلت تلك الأفكار تموج في طيات وعيه وبين تلافيف دماغه لعهد طويل من الزمن حتي ربطها بفيلمه الأخير، ويري نولان أن طببعة تتصورنا للسلاح النووي تغيرت مع مرور الوقت، لكن من المستحيل ألا نتوقف عن الخوف منها، واعتبر أن الغزو الروسي لأوكرانيا عام ٢٠٢٢جرس إنذار مخيف أعاد للبشرية الرعب من التهديدات النووية.

منذ المشاهد الأولي يجد المشاهد نفسه في خضم فوران حياة أوبنهايمر العاصفة، إنه يحاكم بطريقة ما وإن بدا الأمر غير ذلك، هو نفسه يحاكم نفسه كما تعبر عينا مورفي بعمق، يحاكم ذاته، ماضيه، علاقاته، ذنوبه، أو علي الأقل يبرر حياته كلها علي حد قول شتراوس، غريمه الذي أوقع به كي يتم سحب تصريحه الأمني بسبب ميوله الشيوعية، يشرح مونتاج رشيق ومباغت يعتمد علي تركيز المشاهد حياة أوبنهايمر، وبطريقة نولان في السرد غير الخطي الذي تميز بها، يستعرض عبر ٣ساعات ظروف مشروع مانهاتن الحاضن للقنبلة الذرية، وما جري بعده، بين وجهتي نظر أوبنهايمر-شتراوس،، الأمر الذي سيجعلنا نطرح أسئلة عديدة طوال الفيلم، كما يبتغي نولان بالضبط من أعماله"أنا لا أصنع أفلاماً لأبدي وجهة نظر، أصنعها لأطرح الأسئلة المثيرة وأقدم تجربة مشوقة للجمهور أتمني أن تبقي في ذاكراتهم" من تلك الأسئلة المطروحة وتاهت في خضم جدل جناية أوبنهايمر علي البشرية أو إنقاذها من مجازر قاسية كانت ستحدث لولا سلاحه الرادع، سؤال ماهي الحقيقة؟ إن شتراوس أبغض أوبنهايمر وسعي في النكاية به، لأنه" ظن"قيام أوبنهايمر بتأليب العلماء عليه، بدليل تجاهل أينشتاين له بعد لقاؤه بخصمه، وهو ما أثر في نفسيته بعمق، فشتراوس في المقام الأول مجرد موظف بيروقراطي يحيا بين ألمع عقول علم الفيزياء، وزاد من حقده غرور أوبنهايمر في حديثه معه، وسيتجلي في الختام أي وهم بني عليه شتراوس موقفه-ثنائية الخيال والحقيقة أحد عناصر فن نولان خاصة في فيلم prestige – فأينشتاين وأوبنهايمر أثناء وقفتهما بجانب البحيرة، لم يذكرا شتراوس قط، بل كان حديثهما حول الدمار والخراب المهيمن علي العالم بفعل السلاح الذري، ما جعل أينشتاين يغوص في أفكاره الداخلية، دون إحساس بوجود شتراوس، وقد ترك أوبنهايمر وحيداً حيراناً لا يدرك هو الآخر ماهي الحقيقة، هل ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح أم رسم لها طريق الهلاك؟!

العلاقة بين أوبنهايمر وشتراوس استلهمها نولان، من علاقة موتسارت وسالييري كما صورها فيلم أماديوس للمخرج ميلوش فورمان ١٩٨٤، وتبين حقد الرجل المديوكر علي عملاق منحه الله موهبة لا تجاري، فيجد نفسه ازدادت صغراً ووضاعة، وتولدت فيها جراثيم الحقد والبغضاء، فتنسج  السوداوية الحيل والمكائد للنيل من الرجل العظيم، الذي صفع كبرياؤه كاشفاً له عن حجمه الحقيقي، وهو يلقي بظله الممتد علي روحه فتتسسمم للأبد، ويسعي للانتقام المدمر كي يرضي روحه المنكسىة دون قصد علي الإطلاق، إلا مواجهتها بالحقيقة المريرة، وأي الرجال في عالمنا يحتمل لذعة مرارة الحقيقة؟!

يبدو أوبنهايمر في ذلك العمل شبيهاً بالطبيب فيكتور فرانكشتاين، خالق الوحش الذي يطارده طوال الرواية التي ألفتها ماري شيلي في القرن التاسع عشر، ويناديه"أبي" ويوصف أوبنهايمر أيضاً بأبو القنبلة الذرية، التي أصبحت هي الأخري وحشاً يطارده نفسياً، منذ بداية انطلاقها في رؤي من وحي خياله، من ضمنها المشهد المخيف لفتاة ينسلخ وجهها وهي تصفق له، هذه الفتاة هي فلورا ابنة كريستوفر نولان، في تلك اللقطة تداخلت الحياة الشخصية لنولان برؤيته الفنية، كأنه يريد القول أن خطر السلاح النووي يتهدد أبنائنا وكل ماهو عزيز علي قلوبنا.

لقد ارتبطت قوة أوبنهايمر في الفيلم بمنحني صناعة القنبلة، كي تصل أمريكا لصناعة القنبلة النووية قبل ألمانيا النازية بزعامة هتلر، وعند اكتمال جاهزيتها، تتلاشي قوته بالتدريج، بعد أن كان قائداً تكفي إشارة منه، الأكثر من ذلك أنه يصبح محل شك من قبل السلطات، وغير مرحب به علي الإطلاق في أروقتها، لدرجة أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان كما جسده جاري أولدمان في مشهد واحد مؤثر وحقيقي لأبعد مدي، يمنع دخوله لمكتبه مرة أخري ويطلق عليه"البكّاء" بعدما تحكمت فيه عقدة الذنب ورأي الدماء تلطخ يده... الوحش يعذبه ويطارده، ويبلغ ذروة رعبه حين يري في المشهد الأخير كابوس تعرض الأرض لخراب نووي شامل، انفجارات في كل مكان ووهج القنابل يخفي تحته نهاية العالم.

الرغبة في تجربة القنبلة التي دافع عنها أوبنهايمر، إحدي مواقفه المتهورة كما أوضح الفيلم طبيعة سلوكه، عندما حاول تسميم أحد أساتذته، أم رغبة في إثبات الذات، أم فعلاً محاولة لدفع شر أكبر كان ليحدث لولاه؟... الأكيد أن في تلك اللحظة ساطعة البياض أثناء تجريب القنبلة في لوس ألاموس، أدرك أوبنهايمر أن سلاحه الجديد  سيغير من شكل العالم للأبد، فكان أول ما طفي علي وعيه عبارة من كتاب الباهاغافاد غيتا الهندوسي"الآن أصبحت أنا الموت مدمر العوالم. لم يعرض نولان شخصية بطله بعين أحادية إما أبيض أو أسود بل فتح جراحه ليري مدي تعقد صراعه الداخلي، محاصراً بخيارات صعبة، ويتردد من جديد تساؤل شتراوس عن طبيعة أوبنهايمر كرجل وكعالم" العبقرية ليست ضماناً للحكمة، كيف يمكن لرجل عرف الكثير أن يكون أعمي لهذا الحد؟"، يعترف نولان"إن فكرت في أكثر الشخصيات غموضاً التي قدمتها، فبالتأكيد أوبنهايمر هو الأكثر غموضاً وازدواجية، ومع الأخذ في الاعتبار إنني مخرج ثلاثية باتمان فهذا يعني الكثير".

الملمح البارز للفيلم تركيزه علي الوجه البشري، فنحن لا نري معظم الوقت سوي وجوه ترتسم عليها مشاعر، وشفاه يخرج منها حوارات تشكل الركيزة الأساسية للبناء الدرامي كله، مما يعيد للأذهان تحفة سينمائية أخري بنيت علي الحوار بعنوان  12 angry menيطالعنا دوماً الوجه للبشري في كل مشهد، علماء وعسكريون وسياسيون، يعلق علي ذلك مدير تصوير الفيلم هويت فان هويتما"منذ البداية أدركت أن ذلك الفيلم سيكون عبارة عن وجوه، وذلك تحد كبير بالنسبة لنا، في الأفلام الأخري كنا نعتمد علي اللقطات الكبيرة، أما هذا الفيلم فهو يغوص للداخل حول المشاعر والتعبيرات والوجوه والذاتية" من بين تلك الوجوه والتعبيرات تتشكل مرحلة مصيرية من تاريخ البشرية، استغلها نولان جاعلاً من كل مشهد ذروة في حد ذاته، عن صراعات نفسية وعلمية وسياسية وأخلاقية صهرت مواقف ومصير أوبنهايمر.

سواء كان سليل برومثيوس سارق النار من الآلهة ليهبها لبني البشر كي تقوم عليها حضارتهم الجديدة وعاني من انتقامهم حيث وكل به نسر يأكل كبده، ثم ينبت له كبد جديد وهكذا، كما في الأسطورة اليونانية، ومعني اسمه"الفكر المتقدم" كما أشار الفيلم لذلك، أو فيكتور فرانكشتاين الهارب من وحش صنعه، يظل فيلم نولان عملاً إبداعياً يستحق التتويج بالجوائز، وأغلب الظن إنه سيصبح عتبة لهوليوود كي تقدم سير العلماء وما في حياتهم من دراما بطريقة مبتكرة، بعدما رأينا في فيلم أوبنهايمر ساحق النجاح حشد ضخم من علماء الفيزياء جذبوا جمهور السينما يتصدرهم أوبنهايمر ولعبته المميتة. 


الأحد، 27 أبريل 2025

رمضان بالصوت والصورة

 رمضان بالصوت والصورة


لهلال هذا الشهر هيئة مختلفة، إنه يبزغ في السماء كعلامة علي بداية أجواء جديدة، تقطع التسلسل العادي للحياة، وتدب في القري والمدن روح جديدة غير معهوده، إنه الزائر السنوي الذي يمد يده بالرحمة والبركات والبهجة، وسرعان ما يحمل عصاه ويرحل علي وعد بزيارة قادمة بعد ١٢ شهر بالتمام والكمال.

تتسامي الروح في ذلك الشهر الكريم ويبدو باب السماء قريباً للغاية من العالم الأرضي، ربما لأننا ننسي الدنيا إلي حد ما وننهمك في العبادات، فتمتلأ المساجد بالكبار والصغار، وتكثر الصدقات ويهنئ الكل بعضهم بحلول رمضان، وتبدأ تجربة بصرية-سمعية في غاية السرور والإمتاع، تشحن ساعات النهار أغنيات رمضان المعتقة بروح الماضي والفن الأصيل،وكلما بعد بها الزمن نكتشف كم هي رائعة، ومن المستحيل مجاراتها في إمكانياتها الإبداعية أو بما تثيره من شجون وذكريات، فأغنية"رمضان جانا" من ألحان محمود الشريف وكلمات الشاعر الغنائي حسين الطنطاوي وغناء محمد عبد المطلب المذاعة في عام ١٩٤٣،بمثابة البيان الشعبي لاستطلاع هلال رمضان وإشارة البدء بطقوس رمضان بمقدمتها الموسيقية العبقرية، والأداء الغنائي المتمكن، وكلماتها السهلة الممتنعة، فحين تسمع في البيوت والدروب، فالوقت قد حان لتعليق الزينة وشراء اللازم من خزين رمضان وحلوياته، وتستنير الشوارع بالأشرطة الملونة والأضواء، ويدعو الجو الكرنفالي الحميع للسعادة، وتكتمل المرحلة الغنائية بـ"وحوي يا وحوي" للمطرب أحمد عبد القادر، المقتبسة من التراث المصري القديم، وكما يتم استقبال رمضان بالغناء نودعه أيضاً بالغناء، عندما تعلن شريفة فاضل اقتراب عيد الفطر حين تشدو "تم البدر بدري والأيام بتجري" ثم تؤكد علي مفارقة يختص بها شهر رمضان ألا وهي كونه"هالل بفرحة ومفارق بفرحة" ولا أعرف شهر سواه يهب الفرحة في  عند قبوله وإدباره إلا رمضان.

ونفس الشوارع التي كان يعمها الضجيج وتمتلأ بالزحام في النهار، تكاد تخلو مع أذان المغرب من الحركة، فالناس في بيوتهم يتهيأون لصلاة المغرب وتناول إفطارهم الذي يكون عادة دسماً يحوي من نعم الله الكثير، ومن لا يتسني له الإفطار في منزله وسط أهله لظروف عمل أو سفر، يحاول المحيطون به مساعدته وإكرامه، وبعد وهلة يعود الزحام وربما أكثر، فتمتلئ المتاجر والمقاهي، ويمرح الأطفال خارج البيوت حتي وقت متأخر من الليل لاطمئنان الأهالي ببركة رمضان وونسه، ومع لحظات الفجر الندية يسعي المصلون للمساجد بين الصحو واليقظة، يرجون رحمة ربهم لاجئين لحماه، ويملأون بيوته التي تبقي رحبة رغم امتلاء الناس بها، تختلط الأنفاس بالدعوات بالهمهمات، بصوت قراء القرآن كلاً منهم علي نغمة وآية مختلفة، كأن الشهوات خمدت وصفت الصدور والقلوب.

ويمتاز رمضان بموسم فني زاخر وفاخر، وتظل الأعمال القديمة في الإذاعة والتلفزيون لها رونقها ومتعتها التي لا تضاهي، رغم التطور التكنولوجي الفائق في صناعة الصوت والصورة، مازالت الأذن والعين تحن للأصوات المعبرة و الوجوه الأليفة القريبة من القلب لفنانين مصر الحقيقيين، الأذن ترقص طرباً حين تسمع ملكة الميكروفون زوزو نبيل وهي تهمس" بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد...." هنا نعيش بالوجدان في عالم من الخيال الجميل المستوحي من قصص ألف ليلة وليلة، كتبه للإذاعة طاهر أبوفاشا وأخرجه محمد محمود شعبان عام ١٩٥٥،مع أن ألف ليلة وليلة قدمت للدراما التليفزيونية مراراً إلا أن الأصل الإذاعي يمتاز ببصمة سحرية علي الوجدان لا تمحي، ويحتل مكان الصداراة في الأعمال المقتبسة عن ألف ليلة وليلة، فنحن نركب علي بصوت فناني ذلك الزمن علي بساط علاء الدين، ونطير بين الممالك والقصور نشارك أبطال القصص مغامراتهم، ولما ينطلق سيد مكاوي في "المسحراتي" يلهج بكلمات فؤاد حداد المقطرة بحب مصر والإنسانية والحياة، فالسحور قد حان وضوء الفجر يبحث عن طريقه، ومع الإقبال علي طعام السحور تتشبع قلوبنا بالأشعار والغناء مع اثنين من أجمل أبناء مصر ارتبطا بالشهر الكريم، يدعوان كل ليلة ليقظة الضمير والهمة كما يدعو مسحراتي الشارع ليقظة العيون" وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال، حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال، وكل شبر حتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال"، وسيد آخر هو سيد الملاح مع المبدعة سهير البابلي  كونا ثنائياُ إذاعياً في منتصف السبعينيات ارتبط برمضان  عن طريق مسلسل"سيد مع حرمه في رمضان" يقدمانه بأسمائهما الحقيقية، ويغنيان في بدايته أغنية في منتهي الظرف، ومن مشكلات سيد وحرمه لمشكلات أخري يواجهها" موهوب وسلامة" كما قدمهما فؤاد المهندس وعبد المنعم إبراهيم، ومع كل أمسية نستمع لرجاء موهوب بمنحه فرصة أخري ليبين قدراته التي يؤمن بها وحده، وهو يردد" ده أنا موهوب والله العظيم موهوب" فننتظر للغد لسماع موقف مضحك جديد، ومع صوت قراء القرآن الكريم نحلق في سماوات الله العلي القدير ونسمع كلماته بحناجر ازدانت بآيات كتاب الله، ونسمع بخشوع وطرب عمالقة مدرسة التلاوة المصرية وبخاصة الحصري والمنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفي إسماعيل، وكيف ينقلون معاني الكلمات بأدائهم الصوتي وإحساسهم العميق بالقرآن الكريم، ومع الابتهالات نخشع وندعو الله بقلوب رقت من فرط حلاوة الأصوات وصدقها، مستقبلين أيام الرحمات بابتهال النقشبندي"رمضان أهلاً مرحباً رمضان، الذكر فيك يطيب والقرآن" .... إن أثير الإذاعة سري في أيام وليالي رمضان، لينشر فيها ذكريات عصية علي السقوط في بحر النسيان.

 ولم يختلف الأمر بالنسبة للتلفزيون بفوازير رمضان التي قدمها صلاح جاهين وفهمي عبد الحميد، فملآ الدنيا وشغلا الناس، وعلي الشاشة تألقت نيللي وشريهان بتلك النوعية من الأعمال، بينما اكتسح المواسم الرمضانية" ليالي الحلمية" بأجزائه الخمس  من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إسماعيل عبد الحافظ ، فتابعهما الجمهور بشغف وتعلق وهما يرويان مع ما يقرب من ٣٠٠فنان حكاية مصر الحديثة، مجسدة في الصراع بين الباشا سليم البدري والعمدة سليمان غانم، علي مدار عشرات الحلقات دمجت المتعة بالتفكير، وبأسلوب طريف وراقي حاور فنان الكاريكاتير رمسيس زخاري نجوم مصر في الثمانينيات والتسعينيات خلال برنامج"يا تليفزيون يا" فاقتربنا من مبدعي مصر بشياكة وخفة علي القلب، وحين نتذكر هذا البرنامج وأمثاله نرثي لحالة الزعيق والكلام بـ"العين والحاجب" في البرامج الثرثارة المتسابقة نحو افتعال الجدال التافه، وحين يتربع الشعراوي علي كرسيه نجلس أمام لسان لبق يفسر الآيات القرآنية بأسلوب مبسط جعلته قريباً من رجل الشارع.

رمضان في مصر له خصوصية لا تجدها في أي مدينة في العالم، فذلك الشهر طوفان من المشاعر يتم التعبير عنها بطرق شتي، سواء في الروحانيات أو فرحة الاستقبال أو تزجية أوقات الصيام بمتابعة الأعمال الفنية، ولكل طريقة صوتها وصورتها، فيبدو رمضان كعالم خاص وجميل، ولكن ياللخسارة فهو كلل شئ بهيج يتلاشي سريعاً ويذوب في تتابع الليل والنهار، ولا يبقي منه سوي الذكري تؤنسنا حتي يعود من جديد.... وهكذا تمضي الأعوام. 


الخميس، 27 فبراير 2025

المنفلوطي... الرجل والأثر

 

 

المنفلوطي... الرجل والأثر

 

في عام ١٨٧٦استقبلت بلدة منفلوط الشهيرة بزراعة الرمان،الواقعة علي الشاطئ الغربي لنهر النيل بمحافظة أسيوط،ابنها الأشهر الذي سيرتبط اسمه بها مصطفي لطفي المنفلوطي،وسيقام له عند مدخلها تمثالاً يقف ليذكر الداخل والخارج أنه هنا ولد وعاش صاحب النظرات والعبرات،فخر بلدته وناسه،عائلته تنتسب للسبط الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد رسول الله،ويبدو أن الأصل رسم مستقبل العائلة فعمل أكثر أفرادها كنقباء للأشراف وقضاة شرعيين،والده محمد لطفي قاضي منفلوط الشرعي،أما والدته اسمها هانم حسين تركية من أسرة الجوربجي،طلقها أبوه وتزوجت من رجل آخر.

كعادة أهل مصر في تلك الفترة دخل الصبي مصطفي الكتاب،ليبدأ منه أولي خطوات حياته العلمية،وتخرج منه حافظاً لكتاب الله الكريم،ثم التحق بعد ذلك بالأزهر الشريف ومكث فيه عشر سنوات،ولم يقف اهتمامه العلمي علي مايتلقاه من دروس في الأزهر،بل كان شغفه بالمطالعة والقراءة أوسع من المناهج وأقوال المشايخ،وهناك تتلمذ علي يد الشيخ محمد عبده منذ عام ١٨٩٥وأصبح من المقربين له،لم يستكمل المنفلوطي دراسته الأزهرية ولم يحصل علي شهادة العالمية،بخلاف استاذه الذي تحدي جمود الدراسة الأزهرية ليحصل علي شهادته،بينما المنفلوطي انغمس في القراءة الحرة في التراث العربي القديم والترجمات من الأدب العالمي  والاطلاع علي الكتابات الصادرة من أدباء الشام في المجهر،والتي مثلت روحاً جديدة علي الأدب العربي.

اتسم المنفلوطي بحساسية شديدة لكل موقف يمر به،أو صفحة من كتاب يقرؤه،ورغم تدفق قلمه السيال،لم يكن طلقاً في الكلام،لسانه ثقيل في الحروف حين يتحدث،كأن الطبيعة سلبت من لسانه البيان وأودعته في سن قلمه،وبفعل الموجات المتحررة القادمة من الغرب وتأثره بالثقافة الأوروبية،علم بناته في المدارس الأجنبية،وفي سنواته الأخيرة حاول إتقان الفرنسية فلم يتمكن من ذلك،ورفض أن يستبدل زيه العربي بالزي الإفرنجي،وإن كان تعلق بالملابس الداخلية الأوروبية.

عام ١٨٩٧تعرض للمحاكمة بسبب قصيدة هجا فيها الخديوي عباس حلمي لدي عودته من تركيا،نشرها في مجلة الصاعقة ثارت لها غضبة القصر الحاكم،واتهمه بالعيب في الذات الملكية،وكاد يتعرض لخطر السجن،لولا توسط أصدقاؤه وعلي رأسهم محمد عبده،يقول في مقدمتها:

قدوم ولكن لا أقول سعيد     وملك وإن طال المدي سيبيد

رحلت ووجه الناس بالبشر باسم     وعدت وحزن في القلوب شديد

حين توفي الإمام محمد عبده١٩٠٥عاد لبلدته يكسوه الحزن،ويفضي بمكنون قلبه علي صفحات الجرائد، كجريدة الصاعقة والمؤيد،ومن الثانية سينطلق المنفلوطي بالنظرات والعبرات،ليكون أشهر كاتب مقال في زمنه،مما يؤهله ليعينه سعد زغلول وهو وزير للمعارف ١٩٠٩ في وظيفة المحرر العربي للوزارة،ويظل يرعاه حتي وفاته ١٩٢٤بسبب تسمم الدم"البولينا"،ودفن وشيع يوم ١٢يوليو دون أن يشعر به أحد إلا قلة كانت حوله،بعدما شغل أذهان المتعلمين والعامة بكلماته وكتاباته،لأن ذلك اليوم كانت مصر كلها في شغل عنه،بعد محاولة الاعتداء علي سعد زغلول في محطة القاهرة،فأصيب برصاصة في ذراعه الأيمن،وأخري أعلي الثدي الأيمن،حين كان في طريقه ليهنئ الملك فؤاد بقدوم عيد الأضحي،فهاجت البلاد كلها خوفاً علي زعيمها الذي أشعل ثورتها الكبري قبل خمس سنوات،وفي خضم ذلك ذلك الاضطراب العاصف فاضت روح مصطفي لطفي المنفلوطي في عيد الأضحي،متألماً من المرض كما عاش يتألم لأوجاع وأحزان نفسه،ويتوجع لمصائب الناس من حوله يلقي عليهم نظراته ويسكب لأجلهم عبراته،وكما عاش متأوهاً مع أبطال قصصه ورواياته،مات وهو يصيح بلهجة الصعيد"آه... آه... يابوي!".

ونعاه أمير الشعراء أحمد شوقي،منوهاً بيوم وفاته الذي صادف الحدث الجلل،فصرف عنه الأنظار وهو يلفظ آخر أنفاسه ويواري التراب،وقد عاش في بؤرة الاهتمام،ومحطاً لأنظار كل ناطقي العربية:

اخترت يوم الهول يوم وداع    ونعاك في عصف الرياح الناعي

هتف النعاة ضحي فأوصد دونهم     جرح الرئيس منافذ الأسماع

من مات في فزع القيامة لم يجد     قدماً تشيع أو حفاوة ساع

لا يمكن لكاتب أو فنان أن يبزغ من فراغ،أو يظهر من تربة فارغة،بل لابد من عملية تجهيز طويلة وتدريب ذهني حقيقي،تتألف فيها القراءات والتجارب حتي تضع البذرة الأولي التي ستثمر في أوانها حدائق فكرية وقصور فنية بهيجة يترنم بخلودها الزمن،والمنفلوطي كاتب تراثي من الطراز الأول،تشرب التراث العربي شعره ونثره،وهضمه وصاغ من ذلك تياراً تجديداً رومانتيكياً في الأدب،فما فعله أستاذه محمد عبده من تجديد للفكر الديني،كرره المنفلوطي في عالم الأدب،وكيف للمنفلوطي أن يخفق في التجديد كمعلمه وقد قيل أنه كان يلازمه ملازمة الولد للأب،فتحرر من"قيود التمثل والاحتذاء"علي حد قوله في مقدمة الجزء الأول من كتاب النظرات حيث جمع بين دفتيه مقالاته في المؤيد،ولم يكن ذلك يجدي شيئاً لولا أن المنفلوطي صاحب نفس فنية حساسة وعقل واع ومدرك يحسن التدبر والتفكير،تشبع الرجل من أدب الجاحظ وابن العميد وابن المقفع وابن عبد ربه والأصفهاني والجرجاني،ودواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام والمعري،وتنسم ريح عصره بكتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة،فكتب بالعربية أعمالاً مزج فيها اللغة العربية الصرفة بديعة النغم والمعني بالروح الأوروبية،كما قام بتعريب نماذج من الأدب الفرنسي بصورة بليغة محملة بالمشاعر والأفكار أكسبتها شهرة ضخمة ربما فاقت شهرتها في بلاد السين نفسها.

انتهج المنفلوطي في أعماله المنهج الرومانسي وقد جاءت راياته تخفق من أوروبا في القرن التاسع عشر،بعد زوال سلطان العقل وانطلاق الوجدان والقلب،وهو ما عبر عنه الشاعر ألفريد دي موسيه"أول مسألة هي ألا تلقي بالاً إلي العقل... بل اقرع باب القلب ففيه وحده العبقرية وفيه الرحمة والعذاب والحب". يعتبر جان جاك روسو هو الرومانسي النموذجي الأول الذي شق طريقاً للرومانسية،وقد عرفت مدام دي ستال الرومانسية في فجر مولدها بكونها تعني"الحس المرهف،الحزن المبهم،التطلع إلي الله وحب الطبيعة"-إنه أدب المنفلوطي دون زيادة-من أبرز روادها فيكتور هوجو الذي سيطر علي أدب القرن التاسع عشر حتي سماه بعض النقاد"عصر فيكتور هوجو". وكما نري في تلك الإشارة السريعة أن المذهب الرومانسي نبع من الأراضي الفرنسية لذلك يقال"الرومانسية هي الثورة الفرنسية ممثلة في الأدب".لاءمت تلك المدرسة وجدان المنفلوطي،وأظن أنه همس لنفسه في ليلة هادئة بكلمات فيكتور هوجو في ديوان التأملات وهو يستدعي شجونه التي لامست وجدان الجميع وتولهوا بها كأنها مرآة لوجدانهم هم"عندما أكلمك عن نفسي فإنما أكلمك عن نفسك،آه كم أنت مجنون لو ظننت إنني لست أنت". لقد مهد التراث العربي كما عايشه المنفلوطي لدخوله باب المدرسة الرومانسية واعتماده رسولاً لها بين أهل عصره الذين عشقوا كتاباته من أصغر القراء شأناً حتي قمم الأدب المصري كنجيب محفوظ ويحيي حقي،تلك المدرسة التي تعني بالقلب والقلب وحده،وتدور أعمالها في جو من المشاعر والأحاسيس،في مدتئم القلوب وشوارع الخطرات الشاعرية،فعاش يبكي للمنكوبين البائسين،ويرقق القلوب علي الضعفاء العاجزين،وعن منهجه الأدبي يقول"ولقد قرأت ماشئت من منثور العرب ومنظومها،قراءة المتثبت المستبصر،فرأيت أن الأحاديث ثلاثة:حديث اللسان،وحديث العقل وحديث القلب"،ويؤكد أنه لم يحفل سوي بحديث القلب أي إنه رومانسي بالسليقة و إن لم تكن الكلمة طرقت سمعه بعد،نبت في تربة عربية مترعة بالرومانسية يفوح من بلاغتها رائحة القلوب،فقرر استكمال مسيرة أجداده ويؤسس للرومانسية مدرستها في الأدب العربي المعاصر،وأن يكون هو ناظرها الأول وأن يعرف في مقالاته التي كان يتخاطفها القراء المحبون له،وبعضهم يحفظها عن ظهر قلب من فرط هيامه بها،فيثني علي كتاب بلاغة الغرب لكامل حجاج اذي جمع فيه مختارات من الأدب الأوروبي،ويترجم قصيدة الدعاء لفيكتور هوجو مبدع رواية البؤساء درس الإنسانية الخالد،ويخط رسالة لتولستوي الذي هجر أملاكه الشاسعة ومات في محطة قطار بعدما حاول منح ثروته للفلاحين الروس الفقراء،وينعي فولتير المدافع عن الحرية وكرامة الإنسان،ويحلل معني البلاغة متخذاً خطبة أنطونيو بعد مقتل القيصر مثالاً لذلك كما وردت في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير.

بمزيج من الترجمة والتأليف يكتب قصص العبرات التراجيدية،كإرهاص لما سيترجم بعد ذلك من روايات بدأ في تعريبها ١٩١٧بعمله الأشهر ماجدولين لألفونس كار،وقد عربها عن ترجمة صديق له يدعي محمد كاما فؤاد،كعادة المنفلوطي في إعادة صياغة الأعمال الأصلية عن طريق شخص آخر يعرف الفرنسية،فيضيف ويحذف حسب هواه ويعيد ترتيب الأحداث كما يراها هو لما كما دونت ويستفيض في الدروس والمواعظ... وبعد أن يتساءل الناقد عبد الفتاح كيليطو في كتاب"لن تتكلم لغتي"سؤالاً استنكارياً"من هو القارئ العربي الذي لم يتأثر في فترة من حياته بالمنفلوطي،ولم يفتتن بأدبه،ولم يذرف الدموع الغزيرة عند قراءته؟"يلاحظ أن المنفلوطي تشبع بالمؤلفين الفرنسيين الذين ترجم لهم،لدرجة أنهم صاروا جزء من كيانه وروحه لدرجة عدم كتابة اسمائهم علي أغلفة الروايات،فتحت عباءته الأزهرية اللباس الداخلي الأوروبي الذي زلع به،فالمنفلوطي بداخل أعماقه روح أوروبية سترها بالملابس الأزهرية،كما ستر أسماء المؤلفين تحت اسمه العربي الفصيح.

يتذكر الناقد عباس حضر في إحدي مقالاته جزء من حالة الهيام بالمنفلوطي،انهمكت في قراءة المنفلوطي بكل مشاعري وفتنت بعباراته وجمله الموسيقية،حتي إنني كنت أكتب ما يطربني منها في مذكرة جيب أضعها في جيبي كأنها محفظة نقود أنفق منها"لقد أثر المنفلوطي بكتاباته المقالية في النظرات والقصصية في العبرات والأعمال المعربة بروحه ووجدانه الشخصي،في رواد أدبنا الحديث الذين نفتخر بمنجزهم في معترك الحياة الأدبية،نجيب محفوظ أول محطاته الحقيقية بدنيا الأدب في صباه كانت بين يدي المنفلوطي"بدأت أقرأ المنفلوطي حتي تشبعت منه تماماً،وعندما فرغت وبدأت اسأل عنه وجدته قد مات منذ ٢٧عاماً فبدأت أبكيه"ماجدولين هو الكتاب الوحيد الذي أعاد قراءته لأكثر من عشرين مرة!... في ماجدولين شحنة عاطفية لا تفني،مصدرها حرارة عواطف المنفلوطي نفسه وشاعرية بطلها استيفن وروحه العامرة بالحب ومالاقاه من خطوب وتضحيات جسيمة في سبيل حبيبته،ورقة وجمال ماجدولين ومأساتها التي أدت لانتحارها بعد الزواج من ادوار صديق استيفن الثري،مع الجو الأوروبي الذي يغلف صفحاتها،والعبارات النثرية الممتعة،وظل محفوظ يذكر المنفلوطي في أعماله،في رواية بداية ونهاية نسمع حسن يقول لخطيبته"من يقول أن القبلة استهتار؟ألم تقرأي ما قاله المنفلوطي في القبلة وهو الشيخ المعمم؟"أما كمال عبد الجواد المعادل الروائي لشخصية محفوظ فيناجي نفسه في الثلاثية"موت المنفلوطي وضياع السودان ووفاة سيد درويش أحداث كللت زمننا بالسواد"،العميد طه حسين كان من المتولهين بالمنفلوطي قبل محفوظ بزمن،يلتهم مقالاته بأذنه،وتأثر بها من حيث إيقاع النثر وسبك المعاني،ويتجلي ذلك في مقالاته القصصية مثل جنة الشوك والمعذبون في الأرض،وكذلك إبراهيم المازني في صندوق الدنيا وقبض الريح،ولم يفلت من تأثيره كتاب الرومانسية كمحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي،بل ورواد الاتجاه الواقعي كعبد الرحمن الشرقاوي،ويعبر يحيي حقي بكلماته التي تعرف علي الدوام هدفها،بتشكيل فكرة كاملة واضحة بعبارات رشيقة في ذهن القارئ في كتاب"خليها علي الله"عن مكانة المنفلوطي بين أبناء جيله وينسحب ذلك علي الأجيال التالية له"كان المنفلوطي أعز الناس لدي الجيل الذي أنا منه،مصطفي لطفي المنفلوطي.أسال من صخرة الفصحي عيناً سلسبيلاً كم نهلنا منها وارتوينا،إن سحره لا يقاوم وفضله علينا عظيم،ولو أنه رحمه الله أكبر مسئول عن دموع مآقينا وزفرات صدورنا،وخفقات قلوبنا ونحن نقرأ له" العبرات"و"ماجدولين-أو تحت ظلال الزيزفون"".

لقد شق المنفلوطي بقلمه مجري جديداً للأدب العربي المعاصر،وحرك المشاعر فظهر من يكتبون بعد أن أحسوا بلذة الأدب تأثراً به.... وما يزال تأثيره مستمراً حتي اليوم رغم ما يتعرض له علي الدوام من نقد أو بالأحري"نقض"وتجريح،منذ هجوم المازني عليه في العاصفة التي أقامها مع العقاد في كتاب الديوان،ليشتهرا علي حساب كبار من حملوا القلم مع بداية النهضة المصرية،حتي زمن الإنترنت والكلام حق فيه لمن يعلم ومن لايعلم،من يقرأ بتمحيص ومن سمع ويردد دون فهم،يكفي أن كل من يدرك قيمة المنفلوطي ويحمل روحاً شاعرية مهمومة بآلام البشر وأوجاعهم،سيظل يأتنس في لياليه مع النظرات والعبرات،يري كيف تلضم كل عبارة رهيفة حساسة مع أختها لتنتج صفحات تقرأ بالقلب قبل العين والعقل،ويحيا ساعات غير محسوبة من العمر،يعيش فيها مع ماجدولين واستيفن وقد سمت مشاعره،وتعلم أن يفتح قلبه للحب تاركاً الحقد وسخائمه كي لا يتلطخ بالوحل،معرضاً عن الصغائر متعالياً عن الغريزة في سبيل الروح،ويتحمس للوطن هاتفاُ لحياته من أعماقه مع رواية في سبيل التاج،المهداة منه لزعيم الأمة سعد زغلول،ويشهد فيها كيف تغلبت عاطفة الوطنية قسطنطين ابن القائد برانكومير علي كل عاطفة أخري حتي حبه لأبيه الذي يكتشف خيانته لبلاد البلقان،فيفضل حرية شعبه واستقرار بلده علي حياته وحياة أبيه مضحياً في سبيل الوطن بكل ما يملك دون تردد أو ندم...أثر أعمال المنفلوطي في الزمن الحالي ليست في الأسلوب والألفاظ،التي طرب لها أجدادنا في عصره وحفظوها إعجاباً بمقدرته اللغوية التي بجلوها فيه،بل في الروح العذبة والصدق الذي يكسو كلماته،ولأنها خرجت من القلب فتسري للقلب،سواء كان ينتظرها تصدر في جريدة تأتي من مكان بعيد،أو يقرأها علي شاشة هاتف أو كمبيوتر بين أصابعه يفتحها في أي وقت كحالنا اليوم... إنها مؤثرة حقاً لا أحد ينكر وحتي أكثر كارهيها،لا يعترض علي كونها تلامس الروح الساذجة الطيبة الكامنة داخل كل فرد فينا،وتتواري مع كل تجربة مريرة حتي تكاد تتلاشي من الكمد والضربات القاسية!وبمثل تلك الأعمال يمكننا الحفاظ علي جانبنا الخير،في زحام ملابسات حياتية وتعقيدات اجتماعية تهدد باغتياله في كل ساعة،مع المنفلوطي نحتال لأخذ هدنة من ضجيج الترندات والكلام الفارغ والأحداث المخزية،والكتب الرديئة وأدعياء الكتابة والثقافة،ونخلو نتصفح خطرات قلب ذاك الرجل البليغ ومعانيه الحلوة،وننطلق مع شخصياته ذوات المبادئ الثابتة كي لا تذبل فينا الفضائل.

ومع كل معركة أدبية تافهة،أو ضجة من شبه أديب أو مدع ثقافة متضخم الذات،أتذكر ابن منفلوط الذي ترك أثره ورحل،والرجال الحقيقيون هم من تتكلم عنهم أعمالهم لا ثرثراتهم،أتذكره وابتسم قائلاً"سلام عليك يا منفلوطي،يا من جعلت من الأدب ملجأ أهرع إليه في وحدتي فأشارك بوجداني شقاء إخوتي في البشرية،فيرق قلبي ويهتف بحب الإنسانية".


 

 

الجمعة، 31 يناير 2025

الخطط 36

 


اشتهرت الصين بالحكمة التي غطت كل جوانب معيشتها، فكما نتعلم فن الحياة من لاوتزو وفن السياسة والمعاملات من كونفوشيوس، من كتاب الخطط الست والثلاثين نستقي فن إدارة المعارك، ليست الحربية فحسب بل المعارك الاقتصادية والسياسية والإعلامية، لأن ذلك الكتاب كاشف للطبيعة البشرية، ونوازع وأهواء النفس الإنسانية رغم صفحاته المحدودة، ويعرض بالتلميح والإشارة لمواطن ضعفها وكيفية استغلالها لاقتحام أسوار الأعداء مهما تسلحت بالدفاعات لكتابة النصر النهائي أو الانسحاب دون خسائر، لقد ظهرت تلك الخطط خلال عصر الممالك المتحاربة، قبل ظهور قادة روما العسكريين، لتلخص خبرات طويلة في الصراعات بين جيش وجيش وعقل وعقل، إنها الخطط التي طبقها أفذاذ الحياة العسكرية كالإسكندر ونابليون، فلم تكن حروبهم مقتصرة علي السيف فقط، بل جاء السيف في مرحلة متأخرة بعد استخدام الحيل والمهارات والتكتيكات الحربية للتغلب علي الخصم وكشف معسكره وطريقة تفكير قواده... إنك بين صفحات هذا الكتاب ستتغلغل في رقعة شطرنج كبري، وتكتشف مفاتيح الفوز في معارك كثيرة إذا استوعبت كيف تلعب دورك جيداً، وماذا تحرك من قطعك وكيف تتفادي أفخاخ خصمك للإيقاع بك. 


ديوان المتنبي

 


صدق ابن الرشيق القيرواني عندما قال"ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس" وديوانه الذي حققه عبد الوهاب عزام-الذي قضي شطراً كبيراً من عمره في صحبة المتنبي- بتدقيق شديد مع الإشارة لما نسب للمتنبي أو ما غيره الشاعر نفسه فيما بعد، واختلاف نسخ المخطوطات فيما بينها، يملأ وجدان القارئ حتي اليوم وسيظل قابعاً في الثقافة العربية مادامت قائمة ثروة للاقتباس والقياس والعظة، نري فيه تطور الشاعر منذ صباه لأنه قد رتب القصائد تاريخياً من أول بيت قاله حتي ختام آخر قصيدة له، نسير مع قصائده لنهاية حياته، ويالها من حياة فريدة وشخصية نادرة، اصطدمت بالدنيا والناس ومع كل ارتطام نسمع دويه شعراً يتفجر من قريحته الملهمة من موهبة سماوية، ستقرأ هنا أحد روائع وآيات الأدب العربي القديم، تتعلم اللغة والحكمة وفن البياز ويدق قلبك في مواطن كثيرة وستتأمل وتفكر في الدنيا والناس في مواطن أكثر، فمن بين أبيات المديح والرثاء والهجاء والغزل، يعصر المتنبي من حشاشة نفسه ويصفي قطرات من روحه مثقلة بالحكم مواعظ التجارب مع الناس ودنياهم، ولا تندهش لو وجدت نفسك وعواطفك تتجلي في مرآة قصائده، فقد صدق أيضاً القاضي الفاضل أيضاً حين قال"إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس". 


التعريف بشكسبير

 


حينما يكتب العقاد في السير والتراجم، تفيض الأفكار والمعلومات من قلمه السيال، جامعاً كل الخيوط الذاتية والموضوعية لرسم صورة صادقة عن المترجم له، وهكذا فعل وهو يعرف بشكسبير فيدون للقارئ بطاقة شخصية مطولة عنه، يسطر فيها روح عصر شكسبير وخصوصية انجلترا في ذلك الوقت لعزلتها بين أمواج البحر، ويبين دور الأسرة والفارق بين تطلعاتها المحدودة وطموح أعظم شخص ولد فيها، بل أحد أعظم الأسماء في التاريخ، ويبرئه من تهمة الانتحال التي اتهم بها زوراً أو جهلاً، ويصور طبيعة شكسبير الكاتب المسرحي وشكسبير الشاعر، مسجلاً آراء الأدباء فيه كفولتير وتولستوي،وكيف يتم تطبيق النظريات النفسية الحديثة علي أبطاله، ولماذا تحول لأيقونة عالمية في مختلف الدول، حتي ولو كانت تعادي إنجلترا إلا أن أعمال شكسبير برونقها اللامع طغت علي أي خلاف سياسي أو عسكري، وكيف تلقفته الثقافة الشرقية، الكتاب يجيب علي العديد من الأسئلة حول واحد من أعظم أدباء بني البشر، الرجل الذي أدخل في اللغة الإنجليزية كلمات صكها وختم عليها لم تكن تعرفها من قبل، والعبقري الذي صور شخصيات حية أكثر من الأحياء أنفسهم كهاملت وعطيل والملك لير... إنه خير استفتاح لمن يقبل علي خشبة المسرح الشكسبيري لأول مرة ولا غني عنه للمهتمين بأعمال شكسبير وحياته، لأنه يلقي الضوء علي الكثير من الألغاز والمشكلات التي أحاطت بشخصيته، فلا تضيع الوقت واجلس مع العقاد ليقدم لك شكسبير الرجل والفنان. 


كتاب أبو نواس قصة حياته

 


رحلة في الزمان والمكان يصطحبنا فيها عبد الرحمن صدقي باقتدار، لنشاهد حياة أبو نواس، وترحاله من البصرة إلي الكوفة ثم لبغداد ومصر، ونري أثر من حوله فيه بدء من أمه التي تزوجت بعد أبيه وساءت سيرتها فقطع علاقته بها حتي مات، ووالبة بن الحباب الخليع أستاذه في التهتك والمجون، والبوابة التي دخل منها أبو نواس إلي عالم الشهوات بلا حد ثم حبيبته جنان وأثر فراقها عليه، واتصاله بهارون الرشيد وحبسه له ثم منادمة ابنه الأمين ثم وفاته في زمن مضطرب لم ينشغل بشئ فيه عن ملذاته وكأسه، حياة كاملة يصفها لنا المؤلف فيها المضحك وفيها المبكي، نستشف من سيرته صورة للحياة العربية الإسلامية في ختام العصر الأموي وبداية العصر العباسي، نمشي في ركاب أيامه ونسمع خطرات روح تمرغت في المجون والفسق ثم اعتصمت بالتقوي والزهد، ونتساءل ونحن نقرأ سيرة أبي نواس عن لغز النفس الإنسانية وما تحويه من عقد وخفايا لا يعلمها إلا خالقها... في ذلك الكتاب تاريخ وشعر ودراسة نفسية لشاعر بليغ قضي حياته بين الكأس والنغم وقضي نحبه طامعاً في عفو الكريم ورحمة خالقه رغم كل شئ. 


بيت بجوار المقابر

 بيت بجوار المقابر



سكن زحام النهار في رأسه ولم يعد هناك سوي صدي يدوي مثل دق ناقوس بعيد، يردد "علي أن أجده"... لم يمر من هذا المزلقان منذ فترة، لقد اعتاد في الآونة الأخيرة صعود الكوبري والتفرج علي شرفات المنازل الموازية له والمارة في الأسفل، وربما التقي بالقطار وهو يمر تحته كوحش حديدي يجري مصدراً أصواتاً محذرة وكأنه يقول"من يقف في طريقي فسآكله"، فيبتعد الجميع عنه في وجل وتقبض الأمهات بقوة علي أيدي صغارهن، وما أكثر تعساء الحظ الذين أكلهم الوحش في ذلك المكان.

مضي عامر يسير حتي اقترب من المزلقان، وحين لاحت منه التفاتة جانبية لمكان الكشك، توقف بغتة، إذ لم يره! لم يعد موجوداً اقتلع من الأرض وبقي مكانه خالياً، تجمد الزمن للحظات ورجع به عشر سنوات، حين كان شابا" في مقتبل الحياة يري الدنيا صغيرة في عينيه، وسهلة في وجدانه لا تقتات روحه علي شئ إلا الأمل، يتشرب الأدب والفن من كل مصدر يجده، ويردد لأصدقائه-حين كان يمتلك أصدقاء- غير عابئ بسخريتهم وضحكاتهم المستهزئة" أنا إسفنجة أتشرب كل الأشياء وأخلقها من جديد بصورة فنية"، وبقي ذلك الكشك تحت الكوبري من المصادر الأساسية للمعرفة، من خلاله كون قسماً كبيراً من مكتبته واشتري العديد من الصحف والمجلات، قبل أن يتوقف تماماً عن التعامل معه منذ مايقرب من خمس سنوات، حين فرمه وحش آخر اسمه واقع الحياة وتشظت روحه تحت شفرات متطلبات الدنيا، فتخلي عن أحلامه الأدبية وأهمل القراءة وتوقف عن الكتابة، وبدت أمانيه القديمة وإيمانه بها نكتة تثير الضحك حتي البكاء، في العشر سنوات انقلب فيهم العالم كله رأساً علي عقب، وهو أيضاً تبدل تماماً، كغدير ماء امتلأ يوماً بماء المطر، ولمعت علي صفحته أشعة الشمس الذهبية في منظر يبهج القلوب، ثم أصابه الجفاف فأصبح خراباً ومصب للقاذورات ومأوي ترتع فيه الحشرات والزواحف، وحده الكشك ظل قائماً كذكري تؤنسه، وتؤكد له أنه عاش تلك الحياة حقاً ولم تكن وهماً ولا خيالاً، صحيح أنه يتقادم ويتآكل حتي أغلق تماماً قبل عامين إلا أنه ظل موجوداً علامة علي سنوات خصبة ممتلئة بالأمل والطهارة، في زمن لم يعرف فيه كمائن الحياة الغادرة، أو يتعثر في الاحقاد والصراعات فتدمي عينيه من أشواكها ويفقد البوصلة وتتوه منه الطمأنينة.

صمم علي إيجاد عم كريم صاحب الكشك فتوجه للمقهي المجاور المزدحم بالجالسين، وسأل الصبي الذي هرول أمامه مسرعاً وهو يسخن حجر الشيشة لأحد الزبائن، وسأله علي أمل أن يكون الرجل مايزال علي قيد الحياة:

-إلي أين ذهب عم كريم؟

بدون أن ينظر له أجابه:

-عم كريم صاحب كشك الكتب والجرائد المقتلع من مكانه.

ألقي عليه الصبي نظرة سريعة:

-ما أعرفه عنه أنه لم يعد يغادر منزله.

-وأين يسكن؟

اتجه عامر إلي العنوان كما وصفه له صبي المقهي، فشاهد منزلاً متهالكاً امتلأت واجهته بالشقوق بجوار المقابر، وعلي طرفي بابه الحديدي الصدئ ربطت بنتاً صغيرة حبلاً ووضعت عليه مخدة حال لونها للسواد، صانعة بذلك أرجوحة تلهو بها، ولما شعرت به ورفعت وجهه له، وجدها آية للجمال والحسن، صبت في قالب ملائكي التكوين، ملاك صغير أبيض، فحنّ قلبه لمرآها، وسألها وقد ابتسم بصدق لأول مرة منذ عهد طويل جداً:

-هل عم كريم موجود؟

ابتسمت البنت، فأشرق وجهها وازدادت جمالاً وروعة:

-هل تريد جدي؟

أومأ برأسه، فجرت علي السلم يتبعها حتي وقف علي البسطة، كي لا يجرح من يفتح الباب لو كانت امرأة ودقت البنت الجرس، فتحت الباب امرأة عجوز علي وجهها نظارة سميكة تكاد تحجب عينيها، وسمعها تقول:

-ماذا تريدين يا سناء؟

فأشارت البنت نحوه:

-رجل يريد جدي.

أطلت العجوز من الباب فبادر:

-السلام عليكم يا حاجة، أنا آسف لإزعاجكم، ولكني جئت لزيارة عم كريم.

-أهلاً وسهلاً يا بني... ومن أنت كي أخبره؟

ارتبك عامر، وشك أن الرجل سيذكره:

-قولي له عامر، الشاب الذي كان يجيئك باستمرار ليشتري منك الكتب.

بدا علي العجوز أن كلامه لا يشير لشخصيته، فتجنبت إحراجه بسؤال جديد وهمت بالدخول:

-بعد إذنك سأدخل لأخبره. 

غابت في الداخل لفترة وجيزة، ثم عادت لتأذن له في الدخول، فوجد علي الأريكة عم كريم يبتسم له وقد عرفه، فمد يده وسلم عليه، فوجد الرجل لم يفتح فمه أو يمد يده، اكتفي أن يطأطئ في انهزام، فتدخلت زوجته العجوز بسرعة قائلة بصوت باكٍ:

-أصيب بجلطة أفقدته الحركة والنطق! 

تمتم عامر بألم:

-لا حول ولا قوة إلا بالله. 

وفهم سبب إزالة الكشك، ورنا بعينيه لسناء وهي مستندة علي الباب، فأكملت الزوجة وقد زادت نبرتها الباكية:

-إنها حفيدتنا، توفي أبوها وتزوجت أمها وليس لها أحد سوانا، عجوزان علي شفا الموت. 

تأثر عامر بما سمع، وشعر أن هناك باب جديد يفتح له، إن تلك البنت هي الناقوس الذي ناداه ليجد عم كريم، لطالما تاق لابنة يرعاها تعوض آلامه وانفصال زوجته عنه بسبب عقمه وعدم قدرته علي الإنجاب، ونظر ملياً للشقة، فرآها خالية مسوسة الأثاث تساقط الطلاء عن جدرانها، والمطبخ لا تنبعث منه أي رائحة كأنه لم يوقد فيه النار منذ وقت طويل، وقال لعم كريم:

-إنك رجل صاحب فضل...لطالما عاملتني بحنان، ووافقت علي تقسيط ثمن الكتب والمجلات بسرور، ولا أنس إني رأيت عندك اسمي مطبوعاً في صحيفة لأول مرة عندك، لقد قفزت في الهواء فرحاً وتلقتني بين ذراعيك، وكنت أشد سعادة من مني وفرحاً لفرحتي البريئة. 

فضحك عم كريم وزوجته وسناء لأن عامر مثل ما حكاه بدقة. 

من ذلك اليوم لم تنقطع زياراته المتكررة لذلك المنزل، وفي كل مرة يجلب معه الهدايا والمأكولات ويملأ يد المرأة بالمال، حتي أصبح يوم زيارته تحسب لها الأيام، وتغيرت حياتهم كلهم، رأي فيهم عامر الأسرة والصحب وأغدق حنانه علي سناء كأب رؤوف بل وبدأ يكتب روايته الأولي، ووجدوا فيه الأمل والسند أمام مصاعب الحياة، وفي مدخل البيت تقف أرجوحة حقيقية جميلة مزدانة بالرسوم تلهو بها سناء طوال النهار... يراها كل من يتجه للمقابر مشيعاً أو زائراً. 


 


الاثنين، 27 يناير 2025

البحث عن الطريق الأخضر

 


البحث عن الطريق الأخضر


للتقدم الصناعي وجوه سلبية متعددة أثرت علي النظام البيئي،و أوجبت علي المجتمع البشري المعاصر التفكير في سبل تفاديها قدر الإمكان، كي يقدر علي الاستمتاع بالرفاهية والراحة اللتين تقدمهما له الآلة، وفي نفس الوقت ليحافظ علي بيئته من الفساد. بعد الثورة الصناعية في بلاد الإنجليز في القرن الثامن عشر طنّت الماكينات في كل مكان، وذابت الأيدي العاملة وسط ذلك الطنين، مما أدي لظهور تحولات علمية وتقنية، وبدأت البيئة تتشكي من التلوث وإهدار مواردها وصمّ الإنسان أذنه عن شكواها، حتي جأرت بها عقب الحرب العالمية الثانية، ومع ازدياد المشكلات البيئية، التي واكبت سعي الإنسان لبناء الحضارة الحديثة، أصبحت أمراضها لا غني عن معالجتها بعدما شعر العالم في ثمانينيات القرن الماضي، يشعر بوجود خطر مصيري يتهدده لم تعرفه الأجيال السابقة، عندئذ ظهر مفهوم"التنمية المستدامة" لأول مرة في تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية برئاسة رئيسة الوزراء النرويجية في ذلك الحين جرو هارلم برونتلاند وقد حمل هذا التقرير المنشور عام ١٩٨٧ عنوان"مستقبلنا المشترك"، لتصبح التنمية مدرسة للتفكير والإدارة خاصة مع عقد قمة الأرض في البرازيل عام ١٩٩٢ بمشاركة ١٧٢دولة وحوالي ٢٤٠٠شخص يمثل منظمات غير حكومية.

مفهوم التنمية المستدامة وليد علمان هما الاقتصاد economy  والبيئة ecology ، العلمان مشتقان من نفس الأصل في اللغة اليونانية حيث يبدأ كلاً منهما بـeco  أي البيت فالـ economy  يعني إدارة مكونات البيت أما الـ ecology  دراسة مكونات البيت، وفي لغتنا العربية (استدام) من جذر (دوم) ومعناه طلب الدوام والتأني فيه مع المواظبة عليه انتظاراً لما يكون منه، ذلك المعني اللغوي مرتبط بالمعني الاصطلاحي، لأن عملية التنمية تحتاج لاستمرارية وديمومة مع الدأب والصبر كي تتجلي نتائجها البراقة.

للتنمية المستدامة عشرات التعريفات أبرزها ما أوردته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية عام ١٩٨٧بأنها"التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة في تلبية احتياجاتهم" وعرفها قاموس وبيستر علي أنها"التنمية التي تستخدم الموارد الطبيعية دون أن تسمح باستنزافها أو تدميرها جزئياً أو كلياً" أما وليام رولكز هاوس مدير حماية البيئة الأمريكية قال عنها" العملية التي تقر بضرورة تحقيق نمو اقتصادي يتلاءم مع قدرات البيئة".

يمكن إجمال أهداف التنمية المستدامة في النقاط التالية:

1-تحقيق حياة أفضل لسكان دول العالم.

٢-احترام الطبيعة كحاضنة لكافة أشكال الحياة.

٣-رفع وعي الجماهير بالمشكلات البيئية المعاصرة وتقديم المعلومات الكافية له.

٤-الاستغلال العقلاني للموارد، دون إفراط أو تفريط.

5-استخدام ما أفرزه عالم التكنولوجيا لحماية البيئة وتحقيق أهداف المجتمع، وقد تنبه لتلك الإمكانيات التكنولوجية الحالية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بتأكيده أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة تاريخية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، معلناً أن الأبحاث أثبتت أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تسريع تحقيق ما يقرب من 8٠٪منها. 

رغم أن التنمية المستدامة حلم لكل شعوب العالم، إلا أن الدول الكبري تسعي لتحقيق حاجيات شعبها علي حساب الشعوب النامية ما يخل بالتوازن العالمي، فالبيئة تجمع كل البشر لكن الأرض والحدود تفرقهم، فمع ازدياد الرقي والتقدم التكنولوجي المهول الذي دفع الإنسان لحلم السكن في الفضاء، ومحاولات تحقيق الخلود بالشباب الدائم والقفزة التاريخية لإمكانيات الذكاء الاصطناعي، مايزال عليه محاربة الجوع والاستغلال المريع والظلم الفاحش الواقع علي الضعفاء، وهكذا تغدو التنمية المستدامة ضرورة وسلاحاً في مواجهة نقص الموارد وتعميم الفائدة والخير علي كافة أهل الأرض.

للتنمية المستدامة ثلاث ركائز أساسية تمثل جوهر الحياة الفردية والاجتماعية هي الماء، الغذاء، الطاقة، أوجه الترابط بين تلك الركائز الثلاثة متداخلة وديناميكية، المياه والطاقة مدخلات أساسية لإنتاج الغذاء، ومن ناحية أخري يمكن استخدام المياه لإنتاج الطاقة الكهرومغناطيسية كما تعد الطاقة ضرورة لضخ المياه ومعالجتها، والغذاء ما يمد الجسد البشري بالقوة لاستخراج الطاقة، أي أن كل ركيزة منهما تعتمد علي الأخري.

تم صياغة مصطلح ترابط المياه والطاقة والغذاء من قبل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة(الفاو)، في إطار ما أثير من جدل حول التنمية المستدامة التي تعترف بتضارب الأهداف والمصالح بين الجماهير والبيئة، وتسعي لتحقيق حل متوازن يساعد الإنسانية لتحقيق مراميها وفي نفس الوقت لا يخل بالتزاماتها حول البيئة.

كان لمصر سبق الريادة في مشاريع التنمية المستدامة في المنطقة، بالإعلان عن برنامج لمشروعات الترابط بين الماء والغذاء والطاقة(نوفي) عندما استضافت مصر مؤتمر المناخ co27  عام ٢٠٢٢، بمدينة شرم الشيخ لمواجهة التغيرات المناخية وما تتسبب فيه من عواقب وخيمة، يهدف البرنامج لتحسين مرونة الإنتاج الزراعي بتحديث الممارسات الزراعية ونظم الري، ونقل التجربة المصرية للدول النامية وتسهيل المشروعات والاستشارات الفنية، بالإضافة لما تتخذه مصر من إجراءات حثيثة في مجال التنمية المستدامة منذ سنوات،وفي منطقتنا أيضاً مشروعات كبري كمشروع نور للطاقة الشمسية في المغرب، أحد أكبر المحطات للطاقة الشمسية في العالم بعد المحطات الأمريكية الخمس ومحطة سولابين الأسبانية، حيث يساهم في إنتاج الكهرباء النظيفة والتقليل من الاعتماد علي الوقود الأحفوري، وذلك ضمن مشروع مجمع ورزازات للطاقة الشمسية المتجددة الذي يهدف أن يكون حديقة للطاقة الشمسية تنتج ٥٠٠ميجاوات،ومشروع نيوم في السعودية الذي يعد نموذجاً للمدن المستدامة فهو يعتمد بالكامل علي الطاقة المتجددة، ويقوم علي خمس محاور:التقنية، الطبيعة، المجتمع، الاستدامة، العيش الرغيد، تلك المشاريع تتضح أهميتها البالغة بالعلم أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتبر من أكثر المناطق التي تعاني من الشح المائي في العالم، 5٠مليون شخص في البلاد العربية محرومون من إمدادات الطاقة، وحوالي ٧٣٣مليون شخص في العالم واجهوا الجوع عام ٢٠٢٤. 

الأرقام والإحصائيات المحزنة عن مدي البؤس الذي يقبع فيه ملايين البشر حول العالم، يجعل التنمية المستدامة ضرورة لا غني عنها للأجيال الحالية والمقبلة، فهي الطريق الأخطر الذي سينقذ الملايين مما يعانوه من فقر وجفاف وشح في الماء وندرة في الغذاء، عن طريق تدبير حكيم لبيتنا الكبير الذي نسكن فيه جميعاً أياً كان موقعنا علي الخريطة أو لون جلودنا أو لغات ألسنتنا، فما يحدث في أي مكان علي كوكبنا يتردد صداه في كل النواحي، وبالتنمية المستدامة ننهض سوياً لنلامس حياة أرقي وأكثر عدلاً وإنتاجية، وتتزايد المشروعات المبدعة المفيدة في كافة المجالات.


الثلاثاء، 21 يناير 2025

الصين اليوم... قراءة بعيون عربية

 الصين اليوم... قراءة بعيون عربية


في يناير عام ١٩٥٢ بالمنزل رقم ١٦ في زقاق داتساوتشانغ بالعاصمة الصينية بكين، صدرت باللغة الإنجليزية مجلة بناء الصين، والتي سيعرفها العالم بخمس لغات باسم الصين اليوم بدء من عام ١٩٩٠حتي الآن. أسست المجلة السيدة سونغ تشانغ لينغ زوجة القائد السياسي والمنظر الثوري صن يات سن، الذي كتب عنه الكاتب المصري عباس محمود العقاد كتاباً حول سيرته عنوانه"أبو الصين"، لتكون تلك المجلة رسالة الصين الجديدة بعد ثورتها لشعوب العالم، تخاطبهم بالصدق والمودة وتشرح لهم واقع الصين، لكسر الحصار الإعلامي ضد الجمهورية الوليدة من رحم سنوات من الكفاح والنضال.

في عام ١٩٦٤صدرت الطبعة العربية، لينفتح أمام الوعي العربي المعاصر باباً جديداً علي الحضارة الصينية، ومن ذلك الزقاق في ببكين بدأت مرحلة هامة بين الصين المتجذرة في التاريخ ٥٠٠٠آلاف عام، والحضارة العربية التي تمتد علاقاتها بالصين منذ عهد أسرة تانج، وتوجت في زمننا الحالي بالعديد من الصلات والزيارات المحورية، والمساندة من الشعب الصينية للشعوب العربية كافة لاسترداد حقوقها المهدورة، ومن أبرز تلك المواقف الثابتة تجاه المصير العربي مساندة رئيس الوزراء الصيني تشواين لاي لمصر أثناء حرب أكتوبر.

لقد غيرت مجلة الصين اليوم من حياة العرب وتفكيرهم، وفتحت لهم آفاقاً جديدة من المعارف والتجارب، ومازلت أتذكر وقلبي يمتلأ إيماناً بالإنسانية وروعة التواصل بين الشعوب تلك القصة المؤثرة عن الشاب السعودي، فبعد سنوات قليلة مز صدور الطبعة العربية، يزور ذلك الشاب الصين حاملاً معه معاناته من مرض شلل الإطفال، وفي يده يقبض علي الأمل المجسد في نسخة من مجلة الصين اليوم، ورد فيها أخباراً عن قدرة الطبيب الصيني تشن سي خه علي علاج مرضه الذي سجنه في كرسي متحرك طوال حياته، وجاء لبكين يتوق للحرية، فاستقبله العاملون في المطبعة وساعدوه في الوصول للطبيب الصيني، فأحاطه بعناية طبية فائقة، وعاد لبلاده معافياً أقوم مع كل عدد لمجلة الصين بالسفر لربوعها، فأجلس علي ضفة نهر اليانجستي وأسافر لشانغهاي، وأري ما فعلته المدن الصينية من معجزات كنينغبوه وأردوسي ومقاطعة شاندونغ  وشيتسانغ، فما كان ينشر علي صفحات المجلة قبل عقود مضت كأحلام وأماني، أصبح في الأعداد الحالية واقعاً حياً، أراه في القفزة العملاقة للصين التي ألهمت أبناء العالم الثالث، وجعلتهم يرغبون في اللحاق بها كنموذج مثالي، وها نحن نقرأ اليوم في المجلة عن مساهمة الصين في بناء مستقبل جديد لعالم يتهدده الضياع، بمشاريع عملاقة كالحزام والطريق ومجموعة البريكس، وأطلع بشغف علي القسم الثقافي لأستزيد من عمق الفلسفة الصيني، وأقف علي شاطئ بحر حكمتها مبهوراً، وأطالع أخبار نجوم السينما الصينية التي أدين لها بإضافة الكثير لوجداني ومشاعري ومتعتي البصرية، وكلما قرأت قسم"علي مقهي في الشارع الصيني" أبتسم ويرد علي خاطري باباً صحفياً شهيراً كان يكتبه الأديب المصري إحسان عبد القدوس تحت عنوان"علي مقهي في الشارع السياسي"، وخصصت المجلة للمسلمين الصينيين قسماً خاصاً بهم، يناقش حياتهم ويمد جسور الصداقة والتعايش بين الأديان.

القراءة عن الصين ودراسة تاريخها آدابها وفنونها متعة شخصية، فمن خلال ذلك أتثقف ذهنياُ وأنتشي روحياً وأتنور حياتياُ، لقد شعرت بنبض الصين منذ بان كو أول المخلوقات في المثيولوجيا الصينية، حتي الأعمال الأدبية ليو هوا ومويان، وأفلام جونج لي-ممثلتي الصينية المفضلة-  وسينما زانج ييمو المبدعة، وفي رحلتي مع الصين ترافقني علي الدوام مجلة الصين اليوم، أتابع علي صفحاتها ما ينشط عقلي، ويجعل الأمل ينبثق بداخلي، فنحن في النهاية أبناء الشرق أو علي حد تعبير المجلة"كلنا شرق" أعرف جيداً إننا إما ننهض سوياً أو نسقط فرادي، فما نجحت فيه الصين ويشرق علي صفحة مجلتها ولسانها في العالم أعتبره هدف يتجدد مع كل عدد لكل بلاد الشرق، وأسعد بما أراه وأعتبره نجاحاً شخصياً لي، فما بين النيل واليانجستي صلة تاريخية ومستقبل نري خطواته الأولي الزاهرة منذ سنوات، وأتمني أن أجده  قريباً يكتمل علي صفحة مجلة الصين اليوم. 


صوت أجدادي

 


صوت أجدادي


من خوف ضلوعي ناديت

وقولت يا مصر وفردت لها الدراعين

سمعت صدي جاي من بعيد فاهتديت

قالت إيزيس أنا هنا يا ابني

جات لي ومدت أيديها وطبطبت علي قلبي

وأنا قلبي مرعوش محتاج للمسة حنان

في غيابها يملا عقلي عويل

دي إيزيس اللي ملت من دموعها النيل

ولفت البلاد تبكي تدور عليك يا أوزوريس

وجهت الديابة والوشوش الكدابة

ومن صبرها نبت حورس ولد شديد

كافح الظلم ورفع راية المظلومين

ولما انتصر علي عمه ست

دفع التمن عين من عينيه

ناديت وقولت يا مينا يا موحد القطرين

سلمني تاجه"ده يا ابني أمانة بين إيديك

صون مصر يا ولدي وخليها فوق كل شئ"

ولما راح مينا ظهر خوفو

ماشي وجنبه حم إيونو

وسمعت حم إيونو بيقول "آدي الهرم يا ابن عمي"

ضحك خوفو وميل عليه بجنبه

"ده رمز المستحيل ده اللي هايعين الزمن له حارس"

وطلع قدامي أحمس الفارس

وسألته- وكنت قريت وقريت

وفي كل عصر في مصر عالورق لفيت-

" هو صحيح الهكسوس انطردوا"

بص لي بعينين كلها عزيمة واقتدار

"أنا طردت هكسوس امبارح

لكن هايفضل هكسوس يطلعوا مع كل نهار

وواجبك تحمي أرضك طول ما الفلك دوار"

وفجأة سمعت ضحك وصيحة انبهار

وبنات تقول" حتشبسوت صبحت ملكة

تحكم وتنهي وفي الليل تبات وعلي وش البلاد ضحكة

القمح يملا وش الأرض والعطور مع النسيم تسري"

ومن نخاشيشي يدخل لي العطر

يتسرب لمخي ومعاه مفاتيح بيبان الفهم

وقريت علي ورق البردي قصص وحواديت

عن إيمحوتب وماعت وحتحور وإمينموبي والبحار الغريق

وفوقت علي صوت همسه جميل

هادي كماء النيل

لقيت بلوتارك في حوار مع هيرودوت

" إيه العبارة يا خلق" نطق مانيتون

وبدأ الجدال وأنا اسمع واستفيد

يا سلام يا شعبي علي ماضيك

دقت طعم المجد والانكسار

عديت بلحظات فخر وانهزام

وفضلت كما الهرم بتتحدي الزمان

باقي في ملكوتك

وآدي الدليل

وادي النيل عمران

ولكل جد حفيد

ألف أدور في الوشوش

ده إخناتون راكب عالعجلة

ودي نفرتيتي شايلة كيس اللحمة

والمليان ده اللي ماشي عالكوبري

شبه تمثال شيخ البلد وعينه بصه دوغري

ودي الملكة تي بتحضن أعز الولد أحفادها

ودي جيناتنا منورة فوق تراب المحروسة

دي كيميت بتضوي قدام عينيا

وده صوت أجدادي

عليا بينادي

وأنا طول عمري قلبي في وداني



الجمعة، 3 يناير 2025

مالك الحزين... نظرة أخيرة لعالم ينهار

 مالك الحزين... نظرة أخيرة لعالم ينهار


في عام ١٩٧١ أرسل نجيب محفوظ خطاباً لوزارة الثقافة يزكي فيه الكاتب الشاب إبراهيم أصلان، ليحصل علي منحة كي يتفرغ لكتابة عمل أدبي جديد، وصفه محفوظ بقوله" هو فنان نابه، له مؤلفات مطبوعة أو منشورة في الصحف تقطع بموهبة جديدة فذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزدهر "و حقق أصلان توقعات نجيب محفوظ عنه، فجاء عمله الثاني رواية"مالك الحزين"عام  ١٩٨٣، بعد صدور مجموعته القصصية الأولي"بحيرة المساء"، لتصبح علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي تؤسس لمرحلة فنية جديدة جوهرها رصد الهامش والعابر بذاكرة بصرية دقيقة وروح أدبية رقيقة،  وتحتل المركز الواحد وأربعين ضمن قائمة أفضل ١٠٠رواية عربية، وتنال ثناء القراء والنقاد وتحوز النجاح الجماهيري والنقدي معاً الذي يحتاج لمعادلة حساسة للغاية، سيحققها أيضاً فيلم "الكيت كات" للمخرج داوود عبد السيد المقتبس عن الرواية عام ١٩٩١.

حبكة الرواية المكونة من واحد وعشرين مقطعاً يتراوح بين القصير والطويل، تدور في ليلة السابع عشر من يناير عام ١٩٧٧، وذلك ليس إلا أحد الخيوط السردية في الرواية التي تمتد في الماضي، لاسترجاع تاريخ منطقة إمبابة وما يحيط بها منذ سنة ١٧٩٨، حيث انتهت علي أبوابها معركة الأهرام بين نابليون بونابرت والمماليك أثناء الحملة الفرنسية، وبما أن الفن الروائي يكتسب مادته من الحياتي والمعاش، يسرد أصلان وقائع انهيار عالم قديم يتلاشي بشخصياته وذكرياته لحساب عالم جديد تم تشكيله عقب هزيمة ٦٧ وبداية عقد السبعينيات بظروفه المختلفة وحساباته المستجدة علي الشخصية المصرية.

يكتب إبراهيم أصلان عن شخصيات حقيقية عايشها ودون إحساسه بها عبر فنه الروائي، بنسيجها اللغوي ومفرداتها الطبيعية، لتخلد في الضمير الأدبي وتنساب لوعي كل قارئ، كالشيخ حسني الأعمي الذي باع بيته للهرم تاجر المخدرات مقابل قطع الحشيش، مما يسهل عملية بيعه مع المقهي المفتوح أسفله لرجل سيهدمهما معا، وفي ذلك المقهي تتقاطع حيوات الشخصيات التي تزيد عن التسعين شخصية وتضم ثلاثة أجيال، قطر أصلان عصارتها في ١٧٠صفحة، كلها شخوص تعيش في جزر منعزلة، رغم كونها ظاهرياً قريبة من بعضها، فعم عمران صوت المعرفة والتاريخ رجل ولي زمنه، وصديقه عم مجاهد بائع الفول يموت وحيداً في دكانه دون أن يشعر به أحد،ويوسف النجار المثقف المكبوت والشخصية الرئيسية في الرواية يوصف بأنه" يبدو غريبا عن إمبابة مع أنه من أبنائها"، الأسطي قدري الإنجليزي يعيش في دنيا بناها من أوهامه، يسيطر عليها أبطال شكسبير المتغلغلين في وجدانه ويحفظ كلماتهم عن ظهر قلب، مما يجعله يحيا في شكوك وأوهام بعيدة عن الواقع، أما سليمان الصغير تهرب منه زوجته دون أن يجرؤ علي إخبار أحد ولو علي سبيل الفضفضة والبحث عن ملاذ نفسي، بل أنه حين يذهب لأم زوجته يعرفها بنفسه، والأمير عوض الله ابن مؤسس المقهي يتحسر من قلبه علي الحال والمآل، عندما يدرك أن البيع صار حقيقة فيقول برثاء"الحبل قد انقطع، والمقهي ضاع، وعوض الله ضاع، واليوم فقط يموت أبوك"، بينما عبد الله القهوجي العامل في المقهي، أكثر الشخصيات المتعلقة بالمكان، فبدون المقهي هو لا شئ، حياته ودنياه تتمركز حوله، تبقي شخصيات كفاطمة وشوقي وفاروق دلالة علي نتاج الزمن الجديد حيث التحايل علي الحياة لاقتناص متع حرموا منها، مع مسحة من الانحلال الأخلاقي تغلف سلوكياتهم، في المجمل الرواية يصعب تلخيصها لعدم وجود حدث بالمعني الكلاسيكي، إنما هو مأزق تتعثر فيه الشخصيات بين الزمان والمكان، والكل يثقل عليه وقع الذكريات.

من الناحية الأسلوبية تأثر أصلان بمدرسة "النظرة"، التي تجعل من الأشياء لا الأشخاص موضوعاً لها، ومع ذلك لم تتوار الشخصيات في ظلال المكان، و إن كانت مرسومة دون اهتمام بالملامح الشكلية والوصف الجسماني، ويمكن تقسيمهم لشخصيات هروبية كالشيخ حسني وفاروق وشوقي، وشخصيات متأملة كيوسف النجار والأسطي قدري والأمير عوض الله، وشخصيات فاعلة كفاطمة وعبد الله والهرم، بالإضافة لتأثره بأسلوب بالأديب الأمريكي إرنست هيمنجواي ويحيي حقي. 

في مالك الحزين استخدم أصلان لغة وصفية تقريرية متقشفة خالية من البلاغة الطنانة، ولا مكان فيها للاستعارات والكنايات والتشبيهات، فخرجت نبرته محايدة خالية من الانحياز لأي طرف،كأنه كاميرا تصور المشهد كما هو، واستعان في السرد بتقنية تعدد الأصوات. 

في كل أعماله يمتلك فضاء روائي ثابت لا يتغير،حدوده حي الكيت كات وشارع قطر الندي وفضل الله عثمان والشوارع المجاورة التي عاش فيها منذ رحل مع أسرته من طنطا للقاهرة، مع التقدم في العمر سيتقلص ذلك المكان ليصبح"حجرتان وصالة" عمله الأخير،لذلك سنجد جذور بعض شخصيات الرواية في مجموعة بحيرة المساء، وسيستعيد مصير الشخصيات الحقيقية التي صاغها في قالبه الروائي المميز في كتاب"شئ من هذا القبيل" فالمكان هو البطل عند أصلان فيه يتنفس ويعيش وعنه يكتب أعماله.

مع السطر الأخير" كانت الليلة تنقضي، والهدوء يتراجع،

كما تتراجع الأحلام" نكتشف أن شعور الحزن هو المسيطر علي الرواية، والأسي بكافة أشكاله يعشش في قلوب الشخصيات، وندرك سبب تسمية الرواية بمالك الحزين، ذلك الطائر الذي يحيا علي ضفاف الأنهار والبحيرات، يعتبر نفسه مالكها فلا يفارق مكانه علي الإطلاق، ويصيبه حزن شديد إذا جفت مياهه التي يعيش بجوارها، ويطأطئ رأسه كما يفعل الإنسان حين تخترق قلبه الآلام والأحزان ولا يجد مفراً ولا باباً للفرج، فاكتسب ذلك الطائر من صفاته اسمه المركب مالك الحزين فهو يمثل التشبث بالمكان رغم حرقة العذاب، وهكذا يشير إبراهيم أصلان لأبطال روايته العاجزة عن التعامل مع الظروف الجديدة ويضنيها الفقد والحنين... وربما لنفسه أيضاً.